5472

169

Upload: kotob-arabia

Post on 11-Nov-2014

463 views

Category:

Education


5 download

DESCRIPTION

 

TRANSCRIPT

Page 1: 5472
Page 2: 5472

٢

زهرات البستانزهرات البستان مجموعة قصصية مجموعة قصصية

@@@@@@

Þbà×@†àª@åí‘Þbà×@†àª@åí‘@@

Page 3: 5472

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

Page 4: 5472

٣

الفهرسالفهرس

وفكاهية اجتماعية قصص األول القسم

٦........................................................السعادة نهاية ١٢........................................................الحياة قيمة ١٦.....................................................حصان حدوة ١٩.............................................................خائن ٢١.....................................................تدان تدين كما

٣٠..........................................................العمالق ٣٣............................................................لماذا؟ ٣٨......................................................المجنون أيها ٤٠..............................................لبالمرصاد ربك وإن

فقط للصغار الثاني القسم ٦٠........................................................الشر ةنهاي

٧٠............................................العمل جنس من الجزاء ٧٨.........................حاصده الشر وزارع حاصده الخير زارع ٨٣.....................................................وطالح صالح

٨٦..........................................................األخوان ٩٢.........................................الخلق وجمال الخلق جمال

Page 5: 5472

٤

علمي خيال الثالث القسم ٩٨...............................................القمر على الصراع

١٠١.......................................................الزمن آلة ١٠٧...........................................والرومانسية العاصفة ١٣١.......................................الوسيلة تبرر ال أبدا الغاية

مصريات الرابع القسم ١٥٣.....................................................العظيم نيلنا ١٥٩...........................................يوما؟ الحلم يتحقق هل ١٦٤...................................................المستمر الحلم

Page 6: 5472

٥

القسم األولالقسم األول

قصص اجتماعية وفكاهية قصص اجتماعية وفكاهية

Page 7: 5472

٦

نهاية السعادة نهاية السعادة كانت هناك بلدة جميلة، جميلة، تعيش حياة آمنة مستقرة، وكانت تنعم بالخيرات والرزق الوفير، فقـد كانـت تمتلـئ باألشجار الخضراء المورقة المثمرة الجميلة، وبهـا أزهـار

األراضـي الزراعيـة ملونة بديعة، وبها نهر يـروي هـذه الواسعة، وكان أهلها كل منهم يقوم بعمله بكل حماس وجـد

سواء الصانع أو الزارع أو العالم، فلم يكـن الجهـل ،ونشاط وإنما العلم والثقافة والمعرفة، فكان بها مدرسـة ،منتشرا بها

للبنين وأخرى للبنات، وكانت بها مكتبة واسعة يحرص أهـل جديد ومفيد من الكتب على قدر مـا البلدة على تزويدها بكل

يستطيعون، وكانت بها مستشفى تعمل بكـل همـة ونـشاط وكذلك ،لمكافحة األمراض وعالجها والوقاية منها أوال فأول

تعمل على توفير أحدث األدوية الممكنة، وكان مـن األمثلـة الحاج : الواضحة الدالة على نشاط أهل هذه البلدة جاران، هما

والحاج إبراهيم، الذي يمتلك أراضي واسعة في أحمد النجار، البلدة ورثها عن آبائه وأجداده، وكانا صديقين حميمين، وكان أطفالهما الثالثة يقضون جل وقتهم معا، فقد كان للحاج أحمد ولد اسمه محمود، وللحاج إبراهيم ولد اسمه مختـار، وبنـت

Page 8: 5472

٧

عبـون معـا، اسمها زينب، وكان الثالثة قلما يفترقون، فهم يل ثـم . ويأكلون معا، ويشربون معا، ويتجولون بين الحقول معا

يعودون للبيتين السعيدين فينام كل منهم في سـريره النـاعم، حالما بغد مشرق باسم، ومرت األيام، وتتابعت السنون، وكبر األطفال الثالثة وصاروا شابين يافعين قويين وفتـاة فاتنـة،

قرية، غير أن والدها الحاج إبراهيم فكر يتهافت عليها شباب ال أن يحول عالقته بصديقه الحاج أحمد مـن صـداقة حميمـة لمصاهرة ونسب، فقد كان يرى أن ابنه محمود أولى بابنتـه، لسنوات الطفولة البريئة التي قضياها معا، ولمح لصديقه مـن طرف خفي بأنه ال يجد البنته الزوج الصالح الذي ينشده لهـا

من بين من تقدموا لخطبتها من شباب القرية، وأنه لن يزوجها إال لمن يستحقها ويعرف قدرها، وفهم الحاج أحمـد مغـزى تلميحه، وحدث ابنه في األمر، فوجد لديـه ترحيبـا شـديدا، وأخبر والده أنه لن يجد له أبدا شريكة حياة أفضل من رفيقة

ـ ه رسـميا مـن صباه زينب، فتشجع الحاج أحمد وخطبها لصديقه، وبدأت حياتهما معا كأسعد وأهنأ زوجين، ولم تمض بضعة أشهر أخريات حتى اكتملت سـعادتهما وتـضاعفت، فحملت زينب وقضت أشهر حملها، ثم جاء يوم والدتها، فلفظ

Page 9: 5472

٨

رحمها إلى الحياة طفال رائع الجمال، اتفقت مع زوجها علـى أسعد، ولشدة ما فرح تسميته سعيد، لتكون حياته دوما أسعد و

الزوجان بطفلهما هذا، فاعتنيا به واهتما بتنشئته، وكبر سعيد، وصار يلعب في ذات المالعب والحقول التي لعب فيها أبـوه من قبل في صغرهما، وكان مثلهما يلهو مع أقرانه من أطفال القرية، ويرون الدنيا أزهارا وورودا ورياحين عطرة، ولكن،

رة، فوجئ أهل القرية بمجموعـة رجـال بغتة وعلى حين غ مسلحين يهجمون على القرية، فجرى الكـل فـي الـشوارع

ماذا حدث؟ من هؤالء، ومـا : مذعورين يتساءلون في رعب الذي أتى بهم لقريتنا؟ وبعد قليل أدرك الجميع الحقيقة، إنهـم أهل القرية المجاورة، أصابتهم موجة جفـاف عنيفـة أودت

يتهم، ونجت منها قريتهم هم، ففكـروا بزرعهم وحقولهم وماش في أن أفضل حل هـو اإلغـارة علـى جيـرانهم اآلمنـين المستقرين السعداء، ليحصلوا على ما يريدون من طعام وماء، دون مراعاة حقوق الجيرة، وال حق المسلم في عدم ترويعـه وإخافته وقبل كل شيء سرقته، وسرقة عمله وثمرة مجهـوده

ن أهل القريـة لـم أوعلى الرغم من وكفاحه وكده وعرقه، يكونوا مستعدين لحرب، ولم يخوضوا معركة من قبل، فلقـد

Page 10: 5472

٩

زاد هذا الخطر من اتحادهم وتضافرهم، وضـاعفه أضـعافا مضاعفة، وحولهم من عمال وفالحين، لم يجيدوا في حيـاتهم من حرف إال مهنهم تلك، وال يعرفـون شـيئا عـن العمـل

ذ أبطال، ساهموا كلهم فـي مقاومـة الحربي، إلى جنود أفذا األعداء المغتصبين، فازدادت شراسة هؤالء، وأخذتهم العـزة باإلثم، فهاجموا بشدة، وانطلقوا يقتلون ويحرقون ويـدمرون، وكان األطفال والنساء والشيوخ قـد اختبئـوا فـي البيـوت مذعورين مرعوبين مفزوعين، وخائفين قلقـين علـى حيـاة

لشباب األقوياء الذين يتصدون لألعـداء، ذويهم من الرجال وا والكل يحاول أن يراقب من النوافذ والـشرفات مـا يحـدث ويتتبع سير المعركة، وحذا سعيد وأمه زينب حذوهم، وبينمـا كانا على تلك الحالة، فوجئا بطرقـات علـى بـاب البيـت، فاندفعت زينب مسرعة لتفتحه، ولشدة ما أذهلهـا وأرعبهـا

ر يحمل زوجها بين ذراعيه، جثة هامدة، ال مرأى أخيها مختا حياة وال حراك بها، غارقة في دمائها، ليس هـذا فحـسب، فمختار بدوره مصاب بشدة، فدخل وأرقد الجثة على سـرير وغطى وجهها بمالءة، وقال ألخته وهو يجود بروحـه فـي

ن لنا في الجنة مقاما بـإذن اهللا إيا أخت، ال تحزني، : السياق

Page 11: 5472

١٠

وترنح في مكانه لحظة ثم سقط الحقـا بـصديقه عز وجل، وزوج أخته محمود، وهو يردد الشهادتين، وللحظات، عجـز سعيد وأمه عن الحركة أو الكالم، وهما يتطلعان إلى الجثتين، واختلط دمعهما الغزير بالدماء السائلة على أرض الحجـرة، وبعد قليل استجمعت زينـب شـجاعتها، وأفاقـت لنفـسها،

موعها، ولمعت في عينيها نظرة عـزم وتـصميم ومسحت د رهيبة، وانحنت تلتقط بندقية أخيها الشهيد، ثم اندفعت جاريـة

ها آمغادرة المنزل، وأسرع ابنها ألقرب نافذة يراقبها منها، فر والنيران تنطلق من بندقيتها، تحصد بها أعداءها وتأخذ بثأرها

مـن أهـل وتشفي غليلها ممن قتلوا أخاها وزوجها وعـددا قريتها، ولكن، ويا لألسف، انطلقت نيران من مصدر آخر، لم تكن من بندقيتها، ولم تكن موجهة لألعداء وإنما مـن بنـادق خصومها وخصوم القرية كلها، وكبقع سوداء علـى صـفحة بيضاء نقية صافية ناصعة، امتزج اللون األحمر المميز للـدم

ددت أنحاء القرية بثوبها األخضر الجميل، وسقطت زينب، ور كلها صرخة ابنها، التي تحمل أقصى معاني اليـأس واأللـم

عـداء الهائلين، وتحمل اسمها، واسم أبيه، وخاله، وانتبـه األ الغادرين إليه، فألقوا على بيته بمشاعل نيران متقـدة، ولكـن

Page 12: 5472

١١

العناية اإللهية تدخلت ومنعت لحاق الطفل بأمه وأبيه وخالـه، لنافذة قبيل احتراق المنزل تماما، ووقف فتمكن من القفز من ا

بعيدا يراقبه للحظات واألسى يعتصر قلبه الصغير اعتصارا، ثم ما لبث أن هرول لمنزل جديه المتقاربين الجارين، ففوجئ بمنزل جده والد أبيه محترقا بدوره وهو فيه، وبجده والد أمه

في قسوة ملقى أمام بيته جثة هامدة مطعونة وممزقة بالخناجر وشراسة ال مثيل لهما، فانطلقت منه صرخة أشد وأقوى مـن

ت الدموع عيني من لم يعد يحمل اسـما علـى سابقتها، ومأل مسمى على اإلطالق، وكانت تحمل في طياتها سؤاال واحـدا

ما المصير بعد ذلك؟ له ولقريته، ولكل من يشاء لـه : حائرا رحمة وال تمييز، قدره أن يقع في رحى تطحن كل شيء بال

واسمها يعرفه الجميع، الحرب، وإن كان يمكن إطالق اسـم . هو نهاية السعادة، إلى األبد: آخر عليها

Page 13: 5472

١٢

قيمة الحياة قيمة الحياة سار يوسف، وهو شاب في مقتبل العمر، فـي طرقـات

دون أن ،قريته حزينا، دون أن يدري سـببا لحزنـه، بائـسا بيعته، التشاؤم المـستمر يدري سببا لبؤسه، ولكن هكذا هي ط

بال سبب، كان يعمل في ورشة نجارة، وكان مهمال في عمله أشد اإلهمال، ولوال أن صاحب الورشة كان يعرف والده وقد أوصاه خيرا بابنه الوحيد قبيل وفاته، ولوال أنه هو نفسه كان يعطف عليه، خاصة بعد أن لحقت أمه بدورها بأبيه، فأصبح

لوال هذا كله، ما تردد لحظة فـي طـرده، يتيم األب واألم، ولكنه كان يتحمله صابرا مكتفيا بخصم بعض مـن يوميتـه أحيانا، وأحيانا بكلمات اللوم والتأنيب والتوبيخ، علـى أمـل انصالح حاله ذات يوم، وقابل يوسف صديقا له فـي أثنـاء سيره، كان يشتهر بالحكمة والذكاء المفرط، حتى سمي بـين

صديقه هذا، عن سر حزنـه ، جميعا بالحكيم، فسأله أصدقائهوبؤسه الباديين عليه، فأجاب يوسف ال أدري سـببا محـددا لهما، لكني دائما هكذا، أرى الدنيا سوداء مظلمة قاتمة، فابتسم

يا صديقي عليك أن تحدد لحياتك معنـى : صديقه هذا، وقال أن يمنح وهدفا، وستتغير نظرتك لها، وانصرف مسرعا قبل

Page 14: 5472

١٣

يوسف فرصة لسؤاله وتوضيح كالمه أكثر، ومرت عدة أيام على هذا الحديث، وبينما كان يوسف سائرا في طريق العودة لمنزله ذات مساء، على نفس حالته المتشائمة وقعـت عينـاه فجأة على فتاة حسناء، لم يرها من قبل، سـائرة فـي نفـس

يلق باال أليـة طريقه، فأعجب بها، وكان هذا غريبا، فهو لم فتاة رآها من قبل، ولكن هذه الفتاة بالذات شدته، فتبعها حتى منزلها وعرف عنوانها، وفي اليوم التالي ذهب وقابل والدها، وخطبها منه، فضحك منه ساخرا؛ إذ كان يعـرف ظروفـه جيدا، ففي قرية صغيرة كقريته، يعرف كل شـخص اآلخـر

ف لم يهتز أمـام سـخرية وتنتشر األخبار سريعا، ولكن يوس األب، وسؤاله كيف يمكنه أن ينفـق علـى ابنتـه بعـد أن يتزوجها، وهو من كان على مثل حاله في عملـه، وطلـب يوسف منه أن يحدد المهر والشبكة اللذين يريـدهما البنتـه، وهو على استعداد ألن يقدمها له برهانا على أنه يـستطيع أن

وجته، فـازدادت سـخرية ينفق، ويدبر أمور نفسه وبيته وز األب منه، ولكنه حدد له، على سبيل الفكاهة، ودون أن يكون جادا في كالمه، مهرا وشبكة كبيرين البنتـه، فطلـب منـه يوسف أن يمهله ستة أشهر فقط، وسوف يعود بعدها ليقدم له

Page 15: 5472

١٤

فضحك األب وأمهله المدة التي طلبها إنهاء للحديث، . ما طلب الموضوع برمتـه، أمـا يوسـف، فقـد ثم لم يلبث أن نسي

انصرف عازما على تغيير طريقته في عملـه تمامـا، وبـدأ يشتغل بهمة ونشاط شديدين، لم يعهدهما فيه صاحب الورشة، ففرح بهذا التغيير الذي حدث له وشجعه، وزاد لـه يوميتـه مكافأة له، وراح يوسف يدخر من هذه اليومية، ويقتصد أشـد

د في إنفاقه، حتى انتهت المدة المحددة وقـد ما يكون االقتصا تجمع لديه المبلغ المطلوب، فذهب لبيت عروسه وقدم ألبيهـا المهر والشبكة اللذين طلبهما، وقال له وبيتي الذي ورثته عن أبي وأعيش فيه وحيدا جاهز، وال ينقـصه شـيء، وفـوجئ األب، وكان قد سمع بالتغيير الذي حصل ليوسف ولكنه لـم

في بادئ األمر ولكن ها هو ذا الدليل، وهنا لم يملـك يصدقه ولكنه طلب منه أوال أن يمهله هـو إلـى ،األب إال أن يوافق

اليوم التالي حتى يشاور ابنته ويأخذ رأيها، ولما عرض عليها األمر وافقت، فحدد موعد الزفاف، وتم في ميعاده، وانتقلـت

س الجـد العروس لبيت عريسها، واستمر يوسف يعمل بـنف والنشاط والحماس حتى استطاع أن يكون مبلغا انتقل به مـن مصاف العاملين لمصاف أصحاب العمل، إذ اشترى ورشـة

Page 16: 5472

١٥

وأصبح لديه عاملين فيها، وشعر يوسف خالل تلك ،خاصة به الفترة كلها، من يوم أن تقدم لخطبة فتاته، إلى يوم أن امتلـك

عد في نظره كما كانت الورشة، أن نظرته للحياة تغيرت، فلم ت بل أصبحت وردية، ممتلئة ،من قبل سوداء قاتمة مظلمة مملة

بالزهور والورود، وعندئذ فقط، تذكر كالم صديقه الحمـيم، كم تستحق لقبك الذي لقبناك به عن : وابتسم وهو يقول لنفسه

جدارة يا صديقي، لقد نجحت في أن تعلمنـي قيمـة الحيـاة . إياها التجربة واأليامالحقيقية، قبل أن تعلمني

Page 17: 5472

١٦

حدوة حصان حدوة حصان ::تعالت زغاريد سعدية، وصاحت مهللة بفرحتعالت زغاريد سعدية، وصاحت مهللة بفرح

الشقة الجديدة دي تجنن يا أبو محمود، ربنا يجعلهـا "- ". وش السعد علينا يا رب

ابتسم صالح، وهو يراقب فرحة زوجته وأوالده الـستة عـد بالشقة الجديدة التي انتقلوا إليها واستقروا فيها أخيـرا، ب

أكثر من عام قضاه متنقال بين قريته الريفية، حيـث زوجتـه وأوالده، وبين القاهرة، حيث عمله وإقامته المؤقتة عند قريب له هناك يعيش وحيدا، ها هو اليوم قد نجح أخيرا في تـوفير شقة مستقلة مناسبة، فسارع بإحضار زوجته وأوالده إليهـا،

. جميعا بهامويا لفرحته : لى صوت زوجته وهو تقول بلهفةوانتبه ع

". خد يا أبو محمود، علق دي على الباب "-نظر صالح إلى ما تقدمه بدهشة، إنها حـدوة حـصان،

: رفع عينيه إليها وسألها ."إيه دا يا سعدية"

:أجابته بسعادة

Page 18: 5472

١٧

". حدوة يا أبو محمود، عشان تمنع عنا الحسد "- :ابتسم صالح ساخرا، وقال

". ة، لسه برضه بتصدقي التخاريف دي؟يا ولي "- : ضربت سعدية صدرها، وقالت باستنكار

تخاريف إيه يا أبو محمود؟ دي حاجـات !! تخاريف؟ "- ". متجربة ومعروفة

كان صالح يعرف جيدا عدم جدوى مناقشتها في مثل هذه األمور، فأخذ منها الحدوة وخرج وعلقها على باب الشقة من

. ق الباب ثانيةالخارج بسرعة، وأغلومضت الساعات على األسرة وأفرادها منهمكون فـي ترتيب وتنظيم الشقة وتوزيع أماكن النوم عليهم، حتى جـاء

. المساء، فأخلدوا جميعا للنوم والراحة بعد تعب اليوم الشاقوفي صباح اليـوم التـالي، اسـتيقظ صـالح مبكـرا،

بـسرعة واستيقظت معه زوجته، وأعدت له طعام اإلفطـار ليلحق بميعاد عمله، وما إن انتهى من طعامه حتـى سـارع بالخروج، ولم تمض ثوان حتى سمعت زوجته مـن الـداخل صرخة عالية أمام باب الشقة، فهرعت تفتحه لتفاجأ بزوجهـا وقد تدحرج على درجات السلم المقابلة لباب الشقة، واسـتقر

Page 19: 5472

١٨

صـراخها عند نهايتها وقد تفجرت من رأسه الدماء، فتعـالى بدورها حتى استيقظ الجيران، وخرجوا من شققهم، وحينمـا رأوا ما حدث سارعوا بنقل صالح إلى المستـشفى، وهنـاك،

التـي –وبعد أن قام األطباء بالالزم له، وأفاق، كانت زوجته جالسة إلى جوار سريره تبكي، ومـا إن –رافقته إلى هناك

: ن دموعهارأته يفتح عينيه، حتى سألته ملهوفة من بي ". الحمد هللا على سالمتك يا اخويا، إيه اللي حصل؟ "-

تحسس صالح رأسه المربوط، قبل أن يجيبهـا بـصوت : متهالك ". حدوة الحصان، سقطت قدام الباب "-

. وغاب عن الوعي ثانية تاركا زوجته متسعة العينين

م م ٢٠٠٠٢٠٠٠/ / ٦٦/ / ٢٠٢٠

Page 20: 5472

١٩

خائن خائن : : صاح هاني بغضبصاح هاني بغضب

. خائن يا أشرف خائن، عماد هذا - : أجابه أشرف مؤكدا على كالمه وهو ال يقل عنه غضبا

. فعال يا هاني معكم حق، إنه خائن- : قال هاني ثائرا

هل رأيت ماذا يفعل؟ إنه يجلس معنا ويطلـع علـى - . أسرارنا، ثم ينقلها لألعداء

: قال أشرف . نعم، وتكون النتيجة أننا نخسر معركتنا أمامهم- : هاني في حدةقال

يجب أن يعاقب يا أشرف، يجب فرض عقوبـة عليـه . جزاء لما فعله

سنخاصمه منذ اآلن ، بالتأكيد يجب أن يعاقب :قال أشرف .ونمنعه من اللعب معنا نهائيا

: قال هاني

Page 21: 5472

٢٠

وخاصة لعب الدومينو، حتـى ال يهمـس بأسـرارنا - . معنالألعداء، أقصد ألوالد عمنا حين يأتون لزيارتنا واللعب

وبدأ األخوان أشرف وهاني بالفعل تنفيذ العقوبـة التـي . فرضاها على أخيهما عماد

م م٢٠٠١٢٠٠١/ / ١١/ / ١٢١٢

Page 22: 5472

٢١

كما تدين تدان كما تدين تدان ماذا؟ سلفة؟ لماذا تريد سلفة؟ : صاح مراد في غضب

ابني في المستـشفى : أجابه منصور وهو يرتجف خوفا . ال ماتإيا سيدي، ويحتاج لعملية كبيرة، و

. أجرها له إذن: د بحدةقال مرا مـن أيـن : قـائال . قلب منصور كفيه في عجز ويأس

يا سيدي؟ العملية كما قلت لسيادتك كبيرة، وتتكلـف الكثيـر، وكـل مـا ،وأنا ال أملك إال مرتبي من عملي هنا في الشركة

. أريده سلفة أسددها على أقساط من المرتبصارمة، وتراجع مراد في مقعده، ورمق منصور بنظرة

اسمع يـا هـذا، : ثم اكتسب صوته غلظة وقسوة، وهو يقول شركتي ليست مسئولة عن ابنك، تصرف وعالجه بأي طريقة،

. ولكن انس موضوع السلفة هذا تماماانهمرت دموع منصور غزيرة، وهو يقول فـي توسـل

أرجوك يا سيدي، أتوسل إليك، إنه ابني الوحيد، : واستعطاف .حسرتنا عليه لو رحل عناوسنموت أنا وأمه ب

Page 23: 5472

٢٢

هذا شيء يخصكما، واآلن، أعتقد أنه :أجابه مراد ببرود يكفي جدا ما ضيعته من وقتي ومن الوقت الـذي يجـب أن تعطيه لعملك هنا، فعليك العودة إليه حاال قبل أن يخصم هـذا

. اليوم كامال من راتبك. ازدادت دموع منصور في االنهمار بغزارة أكثر وأكثر

حين أدرك أنه ما من أدنى أمل، فغادر مكتب صاحب الشركة التي يعمل بها واليأس والحزن يعتصران قلبه اعتصارا، ولم يكد يغلق الباب خلفه، حتى رن جرس الهاتف علـى مكتـب مراد، فرفع السماعة، فسمع صوت صديقه جمال، ولم يكن قد

لـسؤال سمعه منذ فترة طويلة، فرحب به كثيرا، وتبادل معه ا عن األحوال وبعض الدعابات، ثم اتفقا في نهاية المكالمة على اللقاء بعد ساعة في النادي ليتناوال الغداء معا، وقد كان، ودار

بحكم العادة وطبيعة –الحديث بين الصديقين رجلي األعمال لخ، ثم تطرقت إ... حول التجارة والسوق واألسعار –مهنتهما

مع الموظفين والعمال لـدى كـل أحاديثهما لبعض المواقف منهما، فتذكر مراد موقف منصور، وقد يعجب البعض مـن كلمة تذكر هذه والموقف لم تمر عليه سوى فترة قـصيرة ال تكفي أبدا لنسيانه، ولكن مع مراد فهي تكفي وتزيـد كثيـرا

Page 24: 5472

٢٣

حينما يتعلق األمر بمثل هذه الطلبات من موظـف أو عامـل جمال وهو يضحك ساخرا من ذلـك لديه، ولقد رواه لصديقه

على كل مـن ) يبعثر نقوده (الرجل الذي تخيل أنه يمكنه أن ، ولكن صديقه لم يكن مثله )السذاجة(هب ودب هكذا بمنتهى

في البخل والقسوة والتشدد، رغم صداقته له، وحذره من مغبة ما فعل وما هو مستمر في فعله في كل المواقـف الـشبيهة،

، فاستخف مراد بحديث صـديقه "ا تدين تدان كم"وذكره بأنه وماذا يمكن أن يحدث لي؟ مع ما لدي من أموال، ال : وقال له

شيء يمكن أن يحدث قط، وعبثا حاول جمال إفهامه أن المال . والثروة ال ينفعان في كل المواقف

بعد بضعة أيام، كان مراد مستغرقا في العمل في مكتبه، يرفع السماعة، حتى سمع صراخ فرن جرس الهاتف ولم يكد

وبكاء زوجته، واستطاع بصعوبة بالغة أن يفهم منها أن ابنهما الوحيد في المستشفى، وبصعوبة أكثر عرف اسم المستـشفى، وما كاد يستوعب ذلك حتى ألقى سماعة الهاتف مـن يـده، وجرى كالمجنون إلى سيارته، وقادها بنفـسه دون انتظـار

لصاروخ، مفلتا أكثر من مرة في آخـر السائق، طائرا بها كا لحظة من حوادث مؤكدة، حتى وصل للمستشفى، فهرع إلـى

Page 25: 5472

٢٤

الداخل، وسأل في االستقبال عن اسم ابنه، وعرف أنه في قسم الطوارئ ألنه أصيب في حادث سيارة، فجرى بأقصى سرعة إلى هناك، حيث رأى أوال زوجته ال تزال على حالهـا مـن

عض الممرضات حولها يحاولن جاهدات البكاء الهستيري، وب بعدما عرفهن أنه –تهدئتها دون جدوى، فاستفسر منهن الهثا

عن مكـان ابنـه والطبيـب –زوجها ووالد الطفل المصاب المعالج له، فأجبنه أن ابنه في حجرة العنايـة الفائقـة، أمـا

. الطبيب ففي حجرتهوأشرن له على مكان الحجرتين، فجرى مراد بأقـصى

رعة أوال إلى حجرة العناية المركزة أو الفائقة، فألقى نظرة سه راقدا بال آعلى ابنه داخلها، فكاد أن يقع مغمى عليه حينما ر

حراك، مغمض العينين مربوطا بالشاش الـذي كـاد يخفيـه تقريبا، وما بقي ظاهرا منه كانت تخرج منه أسـالك كثيـرة

لمحاليـل مختلفـة، وأنابيب ،متصلة بعدة أجهزة أحاطت به فأغمض مراد عينيه وترنح في مكانه للحظات، ثـم تماسـك بصعوبة وجرجر قدميه جرجرة لحجرة الطبيب، وطرق الباب ثم دخل، وعرف الطبيب أنه والد الطفل فالن، وسـأله عـن

الواقع أننا نواجـه : حالته وإمكانية شفائه، فقال الطبيب بأسى

Page 26: 5472

٢٥

لقد نزف كمية كبيـرة مشكلة كبيرة بخصوص ابنك يا سيدي، من الدماء، ويحتاج لنقل دم عاجل، فيما ال يزيد عن ثالث أو أربع ساعات على أقصى تقدير من اآلن، وإال كانت النهايـة بالنسبة له، أما لو توفر الـدم المطلـوب فـيمكن القـول إن احتماالت نجاته سترتفع إلى حد معقـول، ولكـن المـشكلة

دة الندرة، ونحـن نحـاول منـذ الحقيقية أن فصيلة دمه شدي لى هنا البحث عنها في كل بنوك الدم والمستشفيات، إوصوله

فلم نفلح سوى في إيجاد كمية ضئيلة جدا نقلناها له ولكنها ال تكفي، وها نحن نواصل البحث واالتـصال بكـل األمكنـة المتاحة، ونرجو ونتمنى فعال أن نوفق، واألهم أن يكون ذلك

. سب، وإال أصبح الدم بال قيمةفي الوقت المناومرة أخرى مادت األرض تحت قدمي مراد، واستند في آخر لحظة إلى مكتب الطبيب، هذه المـرة المـشكلة ليـست مشكلة نقود، ولن تفيد ثروته كلها في إنقاذ ابنه وإعادته إليه،

برغم أن ثروته قد تفيد وتـنجح ،فما يحتاجه ليحيا ليس المال الزمن لن يمهله ليفعـل، وشـل تفكيـره في إحضاره، لكن

للحظات وعجز عن معرفة ما يمكن فعلـه فـي مثـل هـذه الظروف، ثم لم يلبث أن خطرت على باله فكرة، رجـا مـن

Page 27: 5472

٢٦

أعماق قلبه أن تنجح وتنقذ الموقف، فاستأذن من الطبيب فـي استعمال الهاتف في مكتبه، واتصل بـشركته، وطلـب مـن

جميع العاملين والموظفين في سكرتيرته مراجعة فصائل دماء الشركة، وأن يبحث من بينهم عن فصيلة الدماء النادرة البنه، وأعطاها رقم تليفون المستشفى بعدما أخذه من الطبيب، على أن تتصل به بعدما تنتهي لتبلغـه بالنتيجـة، وتطلـب قـسم الطوارئ والدكتور فالن حيث سـيظل بمكتبـه، وأوصـاها

ته خيرا، وانتهت المكالمة وظل مراد بالسرعة الشديدة، فوعد جالسا يفرك كفيه وينتفض ويرتعش من مجرد تخيـل فكـرة فقدان ابنه الوحيد، وبعد أقل من الساعة اتصلت الـسكرتيرة لتبلغ رئيسها، أن هنا موظفا واحدا في الشركة تتطابق فصيلة دمه مع فصيلة الدم المطلوبة، فكاد يصرخ من الفرح، كان ما

أشبه بماء ألقي على نار فأطفأها، وسـألها بكـل لهفـة قالتهمنصور : من هذا الموظف؟ ما اسمه؟ قالت السكرتيرة : الدنيا

وكانت من أعجب وأغرب الصدف، ولكن !! عبد السالم حسن لم ينتبه إليها مراد في هذه اللحظة، ولم يتذكر االسم وما فعله

يـه يحـضر حسنا، دع : بصاحبه فقال لسكرتيرته بنفس اللهفة وهنـا قاطعتـه .... فورا إلى مستشفى كـذا فـي العنـوان

Page 28: 5472

٢٧

معذرة يا سيدي، لكنه ليس موجودا اآلن، صـدم : السكرتيرة ماذا لم يحـضر؟ :ليه فجأة إمراد، وصاح بغضب بالغ انتقل

حضر في الصباح، وقدم استقالته، ورفـض :قالت السكرتيرة عن السبب، قال إبداء أي أسباب، وقال ردا غريبا حين سألناه

ن سيادتك تعرف السبب جيدا، كما أعلن أنـه ال يريـد أي إمستحقات مالية، فقط يريد ترك الشركة لألبد، لقد كنت علـى

ولكن الظروف لم تـسمح حيـث ،بالغ سيادتك بالطبع إوشك ال : قال مراد بـسرعة ،انصرفت سيادتك فجأة بسرعة شديدة

؟ أعطنـي إيـاه، ليس كـذلك أ لديك عنوانه .. ال بأس ..بأسحسنا يا سيدي، ها هـو : سأذهب إليه بنفسي، قالت السكرتيرة

ذا، وأملته العنوان فكتبه وراءها بسرعة، ثم شكرها وأنهـى نه ذاهب ليحـضر المتبـرع إالمحادثة بسرعة، وقال للطبيب

الذي يشترك مع ابنه في فصيلة دمه النادرة، وطلب منـه أن رد وصوله، فوعـده الطبيـب يستعد لنقل الدم منه البنه بمج

خيرا، وأكد عليه أال يتأخر، وقال مراد إنه سـيذهب ويعـود بأقصى سرعة، وخرج مندفعا من حجرة الطبيب إلى حجـرة

: العناية المركزة حيث ألقى نظرة على ابنه، قائال في حنـان تي بالنجدة الالزمة لك فورا، وترك آاطمئن يا بني، سأذهب و

Page 29: 5472

٢٨

زوجته على حالهـا نفـسه، فربـت الحجرة إلى حيث تجلس عليها وبشرها بقرب نجاة ابنهما الوحيد، ثم غادر المستـشفى بأقصى سرعة منحتها له قدماه، حتى وصل لسيارته فاستقلها وانطلق بنفس السرعة التي أتى بها، إلى العنوان الذي أملتـه

– رغم ما قالته له سكرتيرته –له سكرتيرته، دون أن يتذكر نه وبين صاحبه، ووصل، وهناك سـمع صـرخات ما دار بي

وبكاء وعويل يصدر من منزل منصور، ولكنه لـم يتوقـف ليسأل نفسه عن السبب أو يحاول استنتاجه، وإنما طرق الباب على الفور، وبعد لحظات فتح له منصور، وقد غرق وجهـه تحت أنهار من الدموع، ولم يكد يراه، حتى خيـل لمـراد أن

قفت فجأة، وأن نظرة الحزن الرهيب في دموع منصور قد تو عينيه قد انتقلت إلى تعبير بغض وكراهية وحقد ليس له مثيل، وتذكر حينها فقط من منصور وماذا فعل معه، وأسعفه تفكيره لحظتها باستنتاج أن ابنه لقي مصيره المحتوم بعد أن عجـز عن تدبير مصاريف عمليته، ودارت به الدنيا هذه المرة كذلك

تدابير القدر العجيبة، ولكنه تمالك نفسه، وقرر أال يستسلم من لليأس على الفور، وأن يحاول مع منصور، لعـل اإلنـسانية التي تجرد هو منها من قبل في تعامله معه، يجدها عنده اآلن،

Page 30: 5472

٢٩

منصور، أعرف أن الوقت غير مناسـب، وأعـرف :فقال له ءك ما أني قد ظلمتك كثيرا وقسوت عليك، حين رفضت إعطا

طلبت من مال إلنقاذ ابنك، ولكني سأعوضك، سأعطيك كـل ما تريد، حتى ولو كان ثروتي كلها، ولكن أرجوك، أتوسـل إليك أنا هذه المرة أن تساعدني، ابني في خطر، يحتاج لنقـل دم سريع، وفصيلة دمكما واحدة ونادرة، فأرجوك أن تـذهب

لـو حـدث معي اآلن للمستشفى وتنقذ وحيدي، وإال انتهى، و !!!. سأموت أنا وأمه من الحسرة عليه

ورغم أن نظرة عيني منصور ظلت تعبر عـن نفـس المشاعر، ووجهه ال يزال مغطـى ببقايـا الـدموع، إال أن ابتسامة مريرة، تفيض باألسى والمرارة، تسللت إليه، ونطـق لينقل صوته نفس المشاعر التي تنقلها عيناه اللتان لم يرفعهما

هذا أمر يخصكما : إلضافة أيضا إلى البرود، قال عن مراد، با وحدكما، أما ثروتك الملعونة، فلست أحتاج منها اآلن لملـيم واحد، شيء واحد فقط، أتمنى أن أقوله لك اآلن، وكنت أشعر من لحظة أن خرجت من مكتبك يومها أنني سأقوله لك فـي

". كما تدين تدان: "وقت ما، وقد كان، هذا الشيء هو

. . م م٢٠٠١٢٠٠١/ / ٦٦/ / ٥٥

Page 31: 5472

٣٠

العمالق العمالق يا إلهي، إنه ذلك العمالق مرة أخرى، هذه المرة ستكون "

نهايتي على يديه بالتأكيد، فليس هناك ذلك العمـالق اآلخـر ". األكبر منه الذي ينقذني منه دائما

دارت هذه األفكار سريعا في رأس بوسـي الـصغيرة، هـا وهي ترقد عاجزة عن الحركة، وذلك العمالق يقتـرب من

ببطء، ونظرات عينيه تنبئها بأن كل ما فكرت فيه صـحيح، وأن نهايتها هذه المرة ستأتي على يديه كما أتت نهايات كثير

ويا لها من نهاية بـشعة، إن ذلـك العمـالق . من صاحباتها يدمرهن تماما، وال يترك جزءا واحدا من أجسامهن الصغيرة

تدمير كل واحـدة سليما، وتتعالى ضحكاته بعد أن ينتهي من . منهن

صحيح أنها ترى ذلك العمالق اآلخر األكبر منه، والذي يبدو أنه صاحب سلطة أو كلمة عليه، تراه يأتي بعد أن ينتهي العمالق األصغر من أي منهن، ويعنفه ويوبخه، وقد يضربه أيضا، ولكن ما الفائدة بعد أن تضاف ضحية جديدة إلى قائمة

لشرس؟ والذي يستمتع كل االستمتاع بما ضحايا ذلك العمالق ا

Page 32: 5472

٣١

يقوم به من قتل وتدمير لهن، ومن الصعب إنقاذ أية ضـحية بعد أن ينتهي منها، فهو ال يترك مجاال لهذا، إال لـو أنقـذها العمالق األكبر من بين يديه، وكان حظها سعيدا بقربـه مـن العمالق األصغر المرعب لحظة انقضاضه عليها، وهـي ال

ال ترى سوى ذلك العمالق الرهيب يـدنو منهـا . نتراه اآل ببطئه المعهود، ومالمح وجهه تدل على سعادته وفرحته ألنه

. سيمارس هوايته الفظيعة المحببة إليهوال يوجد ما يمنعه من ذلك، لقد أنقذت منه عدة مـرات ولكن ال أمل هذه المرة، يا للهول، لحظات وتـصبح أجـزاء

. الق، وتنتهي تمامامبعثرة، يلهو بها العم بكت بوسي بحرارة دون أن يرى .."يا ويلتي، يا ويلتي "

ذلك العمالق دموعها، فلم يكن يراها أو يحس بها سوى بنات . جنسها فقط

واقترب العمالق منها أكثـر، وأكثـر، وأكثـر، حتـى أمسكها، وهي عاجزة تماما عن مقاومته، وتعالت ضـحكاته

ات كانت قد انتهت، وتحولـت المرعبة، وفي لحظات معدود ... ألجزاء تبعثرت حول ذلك العمالق، كما توقعت تمامـا و

مرة أخرى؟ عروسة أخرى تقضين عليها تماما؟ ألن تتوقفي "

Page 33: 5472

٣٢

عن هذا اللعب العنيف والهواية المزعجة أبدا؟ لن أشتري لك عروسة جديدة، قبل أن تتعودي الحفاظ على لعبك، وخاصـة

". عرائسكخ أم مروة الغاضب المنفعل بهذا الكالم الذي تعالى صرا

توجهه إلى ابنتها الصغيرة مروة، التي انفجرت باكية، وحولها بقايا كانت منذ لحظات فقط عبارة عن عروسة صغيرة كانت

. بوسي: هي قد أسمتها

م م ٢٠٠٢٢٠٠٢/ / ٢٢/ / ١١١١

Page 34: 5472

٣٣

لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟

وماذا لو؟ وماذا لو؟ ادل، فدائما كان هذان السؤاالن تقريبا ال يفارقان ذهن ع

ما كان يسأل نفسه، بعد كل موقـف يـصادفه، ولعـشرات : المرات يوميا

لماذا يحدث لي هذا؟ وماذا لو حدث هذا؟ أو ماذا لو لم يحدث لي هذا؟

كان في رأسه اعتقاد جازم بأنه أتعـس مخلـوق فـي الوجود، وأنه لو أراد أي شخص أن يضرب المثل بشخص ما

فلن يجد مثال أفضل منـه، فيكـون في التعاسة وسوء الحظ، : عليه أن يقول

. إن فالنا أتعس من عادل نفسهوكانت لديه من وجهة نظره أسباب مقنعة لهذا االعتقاد، فهو يتيم األبوين منذ طفولته المبكرة، حيث توفيا في حـادث

خوة، أو أي أقارب سـوى جـده الـذي إسيارة، ولم يكن له

Page 35: 5472

٣٤

المتواضعة، حتى نـال شـهادته اعتنى به في حدود إمكانياته المتوسطة وعمل في إحدى الورش، وتوفي جده بعـد ذلـك وأصبح وحيدا في الدنيا، ال يملك من حطامها سـوى شـقة صغيرة مكونة من غرفة واحدة وبعض المتعلقات البـسيطة، ويوميته البسيطة من عملـه التـي ال تفـي إال باحتياجاتـه

كئيبة، ال يحـدث فيهـا الضرورية، والحياة تمضي به مملة شيء أكثر من قيامه بعمله المعتاد، والمشاحنات واالحتكاكات

سواء مع صاحب العمل، أو زمالئـه ،اليومية المعتادة كذلك . فيه، أو حتى الزبائن في بعض األحيان

وفي هذا اليوم بالتحديد، تشاجر مـشاجرة كبيـرة مـع ل بعض صاحب العمل، كادت أن تنتهي بفصله، لوال أن تدخ

زمالئه ونجحوا في تهدئة صاحب العمل، والتخفيف من حـدة الموقف، وأقنعوا عادل باالعتذار رغم اقتناعه بأنه لـم يكـن مخطئا، وانصرف عادل وهو في منتهى العصبية، يسأل نفسه

لماذا يحدث لي هذا؟ لماذا؟ وماذا لو كنت ولدت غنيا، : كعادته وعشت في رعاية أبوي؟

قه على المحل الذي اعتاد شـراء وجبـة ومر في طري عشاءه منه، وانصرف إلى حيث المحطة التي يركـب منهـا

Page 36: 5472

٣٥

األتوبيس كل يوم إلى منزله، وجلس على إحدى كراسيها وهو ما زال عصبيا ثائرا، ينظر إلى ساعته كل دقيقـة وأخـرى ويزفر حانقا، وكان قد ترك لفافة الطعام بجواره، وحينما جاء

ان قد نسيها تماما في غمرة ما يسيطر عليه مـن األوتوبيس ك الغضب والعصبية، وأسرع يزاحم ليركب األتوبيس، وبعد أن ركبه بالفعل وانطلق لدقائق قليلة، تذكر فجأة اللفافـة، فجـن جنونه، وأسرع يطلب من السائق التوقف، ونزل من األتوبيس وجرى بأقصى سرعة عائدا إلى المحطة، وبحث عن اللفافـة في لهفة وعصبية، ولكن عبثا، لقد اختفت تماما، وهنـا كـاد عادل ينفجر غيظا بحق، وأحتقن وجهه بشدة، والسؤال هـذه

:المرة ينطلق منه على هيئة صرخة عالية لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟

ولم يلبث أن شعر بيد حانية تربت على كتفـه، فالتفـت أله بحنـان لصاحبها في سرعة وحدة، فوجد رجال عجوزا يس

ماذا هناك يا بنى؟ هل حدث لك شيء سيئ ال سـمح : ومودةاهللا؟ نظر له عادل باستهجان وازدراء، وتركه دون أن يجيب سؤاله، وفي داخلة تنطلق ضحكة ساخرة شديدة المرارة، وهو

Page 37: 5472

٣٦

شيء واحد فقط؟ يا لك من متفائـل ! شيء سيئ : يقول لنفسه . أيها الرجل

خسارته الليلة، ثمن عشائه وانشغل بعد ذلك بحساب ثمن المفقود، وأيضا حتى ثمن تذكرة األوتوبيس األول التي قطعها مجبرا قبل نزوله، رغم ركوبه لدقائق معدودات، لم يـنس أن يحسبها، وبدا له أن سوء حظه الذي لم يكن يتخيل أكثر منه، قد تضاعف في هذه الليلة بالذات، وركب األوتوبيس حينمـا

رت عليه هذه الفكرة، وانطلق األوتوبيس، ولم جاء، وقد سيط تمض عشر دقائق حتى شعر في الشارع الذي وصـل إليـه األتوبيس بحركة غير عادية، وضجة وصيحات عالية، منهـا

: يا ساتر يا رب، يا ساتر يا رب، ومنها ما ينـادي : ما يردد إسعاف بسرعة، فسيطر عليه الفضول كغيره مـن الركـاب

ولم يكد يفعل حتى جحظت عينـاه وتـرنح ونظر من النافذة، . لحظات ثم سقط مغشيا عليه على كرسيه

لقد كانت حادثة فظيعة، كان نفس األوتوبيس الذي كـان وقد عرفه من رقمه اصطدم بعد المكان الذي نـزل –يركبه

فيه بقليل بعربة نقل كبيرة، وانقلب االثنـان علـى جانبيهمـا

Page 38: 5472

٣٧

د أدنى أمل في العثـور علـى واشتعلت فيهما النيران، ولم يب ! أحياء في أي منهما

أفاق عادل بعد ذلك وقد عاود األتوبيس الـذي يركبـه انطالقه بعد توقفه لفترة في مكان لحادث، ونقل عادل بصره ذاهال في وجوه الركاب الذين أحاطوا به، وتنفسوا الـصعداء

حمدا هللا : حينما فتح عينيه، وانحنى أحدهم عليه وقال مبتسما .على سالمتك يا أستاذ أخيرا استعدت وعيك

نظر إليه عادل لحظات وكأنما لم يستوعب ما قاله، ثـم هل صـحيح أن األتـوبيس رقـم : سأله بصوت خافت ذاهل

قد تعرض لحادث وانقلب واحترق؟ ومات كل من فيه؟ (....) . نعم، إنها حادثة فظيعة حقا: قال الرجل بأسى وأسفماذا لو لم أنسى لفافة : ل نفسه أادل يس وهنا أيضا، عاد ع

الطعام على المحطة؟ ولماذا أنا بالذات الذي يحدث لي هذا؟ . ولكنه كان يعرف الجواب هذه المرة

. . م م٢٠٠٢٢٠٠٢/ / ٧٧/ / ١١

Page 39: 5472

٣٨

أيها المجنون أيها المجنون كانت واقفة في سكون، تتأمل بـسعادة وصـفاء زرقـة

فـي السماء، ولمعان الحشائش الخضراء من حولها، وتستقبل نشوة نسمات الهواء الرقيقة، وكانت تنتظر من سيقبل عليهـا لتهيئة الراحة والسكينة، ولمحت من بعيد قادم إليها، ففرحـت

. واستبشرت وتهيأت الستقباله مثلما اعتادت استقبال زوارهاولكن ما يحمله من أدوات لم يرحها حين اقترب منهـا،

ت مصير زميالت وإنما أثار القلق والخوف في قلبها، وتذكر سابقات لها لقين حتفهن على أيدي حاملين لمثل مـا يحملـه،

. ودعت اهللا أال يكون هذا هو مصيرهالحظات ثم ظهر آخر يحمل أدوات شبيهة باألدوات التي يحملها األول، واتضح أنه زميله، ومن خالل الحديث الـذي دار بينهما، تأكدت كل ظنونها، أن هذين الـرجلين عازمـان

. ال على القضاء عليها وتمزيقها إربافعوانسالت دموعها التي ال يراهـا أحـد وهـي تراقـب استعداداتهما لجريمتهما، وتسمع أحاديثهما غير المبالية بهـذه

. الجريمة، كأنها أمر عادي جدا بالنسبة إليهما

Page 40: 5472

٣٩

وانتهت االستعدادات، ووقف أحد الـرجلين ورفـع أداة يهوي بها على جسد الضحية المسكينة القتل عاليا متأهبا ألن

التي ال تملك مقاومته ليمزقه إربا إربا، ولم تستطع ضـحيته أيها المجنون، ما تفعله جنون حقيقي، ستؤذي "سوى الصراخ

نفسك به مثلما ستؤذيني وأكثر، حاول أن تفهـم وتـستوعب فائدتي لك ولغيرك، والضرر البالغ الذي سيلحق بكم نتيجـة

. ، وما من سميع أو مجيب"يالقضاء علوسقطت أداة القتل الثقيلة على جسد الضحية، ومزقتـه قطعا، راح االثنان يجمعانها ويلقيانها جانبا، وأحدهما يقـول

إنها الشجرة العاشرة التي نقطعها اليوم، كـم شـجرة : لآلخر تبقت أمامنا؟

وابتعد الرجالن بفأسيهما يحصيان ما تبقـى لهمـا مـن ضيان عليها، ويضيفانها لقائمة ضحاياهما، ويـستمر أشجار يق . الجنون

مم٢٠٠٣٢٠٠٣/ / ٩٩/ / ٢٦٢٦

Page 41: 5472

٤٠

وإن ربك لبالمرصاد وإن ربك لبالمرصاد ربما ال يصدق الكثيرون عندما يقرءون هذه القصة أنها (

واقعية وحقيقية فعال، ولكن الحياة مليئة بالعجائب والغرائـب التي ال نملك أمام الكثير منها سوى أن نردد حقا، وإن ربـك

). بالمرصادلخوة األربعة، عادل وفـؤاد كان االجتماع العائلي بين اإل

ومراد ورأفت، ساخنا ملتهبا، كما هي العادة، ومنقـسما بـين جبهتين، أيضا كالمعتاد، فدائما ما كـان عـادل فـي ناحيـة

خوته الثالثة في ناحية أخرى، في أي مناقـشة أو حـوار إو اثنين منهم، فقـد كانـت بينهم، أو حتى بين عادل وواحد أو . الخالفات ال تنتهي وال تنقطع بينهم

كان عادل األخ األكبر رافضا للكثيـر مـن تـصرفات خوته األصغر منه، ودائما ما كان يذكرهم بما كـان عليـه إ

أبوهم الراحل من أخالقيات رفيعة يشهد بها كـل مـن كـان صـورة يتعامل معه، وأنه كان يتمنى أن يكون أبناؤه األربعة

منه، وأنهم لو كانوا يحملون في قلوبهم ذرة من الحب ألبيهم، فعليهم أن يحاولوا أن يكونوا مثلما كـان يتمنـى، متـصفين

Page 42: 5472

٤١

بالخلق الحسن من األمانة والتواضع وعدم التعالي، ال سـيما في التعامل مع عمالء وعمال سلسلة محـالت المـصوغات

. الذهبية التي ورثوها عن الوالد الراحلخوة الثالثة لـصوت العقـل لكن هيهات أن يستمع اإل و

والضمير الذي يمثله شقيقهم األكبر، فدائما ما كانوا يسخرون منه ومن نصائحه ويلقون بها عرض الحائط، وعادل يتحمـل

ن أبـاه قـد أصابرا ويحمد اهللا على أمر واحد فقط أال وهو ، خوته واختالفه هو عـنهم إاستشف في حياته اعوجاج سلوك

فكانت وصيته صريحة بأن يتولى هو إدارة سلسلة المحـالت التي تعب وعرق وتحمل الكثير والكثير طوال عمـره حتـى أنشأها وحافظ عليها حتى نهاية حياته، وكان واثقـا أن ابنـه األكبر هو أصلح من يكون امتدادا له في إدارتها بنفس أسلوبه

أن يقوم به وطريقته، ويكون أيضا صمام أمان ضد ما يمكن خوته من قضاء مبرم على ما أفنـى شـبابه وعمـره إباقي

وحياته في بنائه، وعلى األخص سمعته الطيبة ولذا قـرر أن يدير عادل محالته من بعده ويحافظ عليهـا وعلـى اسـمها

خوته، الذين بالطبع إوسمعتها، ويوزع أرباحها بمعرفته على بـسهولة، وكانـت لم يمر اكتشافهم ألمر كهذا بعد وفاة األب

Page 43: 5472

٤٢

الثورة العارمة واالتجاه للطعن في صحة الوصية في المحاكم واتهام شقيقهم الكبير بالتزوير، أو على األقل باستغالل مرض األب األخير وإقناعه بتحرير وصية لصالحه، ولكن كان ال بد

. للحق أن يظهر في النهاية وأمامه يستسلم الباطلهم األكبر بناء على طلبه، واليوم، كان اجتماعهم مع أخي

أعرف أنكم تتعجبون من دعوتي لكـم : وبدأ هو الحديث قائال ألن نجتمع سويا في غير الميعاد الشهري المعتاد لنـا للقـاء والمحاسبة عن أعمال المحالت، وأعرف أنكم ال تريدون أكثر من هذا اللقاء وأنه لوال إصـراري وإلحـاحي علـيكم لمـا

ـ يع وقـتكم الثمـين، وسـأدخل فـي حضرتم، ولذا فلن أضالموضوع مباشرة، ببساطة فإنني نويت إكمال نصف دينـي، والزواج، وأتمنى لو تشاركونني فرحة هذا اليـوم وتكونـون

خوتي، وما بقي لـي مـن إمعي فيه، فأنتم ما زلتم وستظلون أهل بعد رحيل والدينا وعدم وجود أقارب لنا، فما رأيكم؟

نظرات تعكس المفاجـأة والحيـرة خوة الثالثة تبادل اإل والتردد، فقد كانت خطوة غير متوقعة من أخيهم الذي طالمـا

ـ خوة إناصبوه العداء، فإذا به يعلنهم أنه ما زال متمسكا بهم ك

Page 44: 5472

٤٣

وأهل له، ويطالبهم بمشاركته في أسعد وأهم يوم في حياة أي . إنسان، زواجه

مبـروك، : ثم قال فؤاد في شيء من الخشونة والجفـاء ومن هي العروس؟

اسمها فايزة، إنها فتاة رقيقة كالمالك، : ابتسم عادل وقال . التقيت بها صدفة في إحدى المحالت

ومن والدها؟ : سأل مراد بلهجة ال تختلف عن لهجة فؤاد وماذا يمتلك؟

يمتلك الستر، والتـدين واألخـالق : ضحك عادل وقال له ابنتهمـا الرفيعة، إنه موظف بسيط، توفيت زوجته وتركت

الوحيدة، التي تساعد نفسها وأباها على الحيـاة بعملهـا فـي ... و،إحدى المحالت

وقبل أن يكمل عادل كالمه، كانت القنبلة قد انفجرت في – الذين هبوا من مقاعـدهم –خوته الثالثة إصراخ !! وجهه

في وجهه كاد يصم أذنيه، ثم انهمر عليه سيل مـن عبـارات هجان والرفض والسخرية، جاء من ثالثـتهم االستنكار واالست

في آن واحد إلى حد لم يستطع معه تمييز كلماتهم، وإن كـان . المعنى أوضح من أن يحتاج ألي تفسير أو بيان

Page 45: 5472

٤٤

واستمر ذلك السيل لما يقرب من خمس دقائق كاملة، قبل خوة الثالثة لمقاعـدهم مـن ويعود اإل ،أن يهدأ انهماره قليال

يلهث ويحاول التقاط أنفاسه، وأبصارهم مـا وكل منهم ،جديدزالت مركزة على شقيقهم األكبر الذي لزم الصمت التام طيلة فترة انفجار البركان وانهمار السيل، وحين تأكد مـن هـدوء ثالثتهم بعض الشيء، عاود الحديث بصوت خالطه ألول مرة

أوال أحـب : الكثير من الحزم والحسم والصرامة، وهو يقول ذكركم بأنني ال أعرض األمر عليكم الستئذانكم فيـه، أو أن أ

الستشارتكم وأخذ رأيكم، وإنما إلبالغكم لكي ال يكون علـى لوم أو اتهام بأنني تزوجت من دون أن أخبركم، وال أعترض على أن يكون لكم رأي فيما تسمعون عن الفتاة التـي أنـوي

رجعـة خطبتها، ولكن أحب أن أخبركم أنه اختيار نهائي وال . فيه، وأعتقد أنه قرار يخصني وحدي

كيف يخصك وحـدك؟ مـن سـتتزوجها : صاح رأفت ستنضم ألسرتنا، كيف تضم إلينا مثل هـذا المـستوى الـذي تصفه؟ بائعة في محل، وابنة موظف بسيط، ال أسرة عريقـة وال مال وال جاه وال منصب وال مركز، أتريد االرتقاء بنا أم

لن : ابتسامة ساخرة مريرة، وهو يجيب االنحدار؟ ابتسم عادل

Page 46: 5472

٤٥

أؤكد أنني أرتقي وأسمو وأعلو :أجادلك يا رأفت إال بأن أقول ، بهذه الزيجة، ولكـن مـن وجهـة )المترابطة جدا (بأسرتنا

نظري أنا، ولألسف فهي كما هي العادة لن تتفق مع وجهات . نظركم

إننا لن نسكت أبـدا : هب فؤاد من كرسيه صائحا بدوره ى هذه اإلهانة لنا جميعا، ومن األفضل لـك أن تـصرف عل

النظر عن هذا الزواج وهذه الفتاة، قبل أن تضطرنا لفعل مـا . ال نرضاه

تحولت ابتسامة عادل لضحكة عالية، تـضاعفت فيهـا أحقا ال ترضونه يا فؤاد؟ : المرارة، وهو يقول

هب مراد من كرسيه هو اآلخر هاتفـا، ال فائـدة مـن معك، لقد أخبرناك برأينا على كل حال، وال تلمنا بعد النقاش

. ذلكوانصرف الثالثة وعادل يشيعهم بنظرات تمتلئ بأسـى

ن زادا كثيـرا بعـد إومرارة، لم يفارقاه منذ زمن طويـل، و . رحيل والده

ولم يفارقه هذا الشعور وهو يذهب لبيـت فتاتـه التـي ـ ه بـصراحة اختارها قلبه، ويقابل والـدها وحيـدا، ويحدث

Page 47: 5472

٤٦

ووضوح عن أسباب ذلك، ورغم أن األب وابنته لـم يتقـبال األمر وتخوفا من العواقب المستقبلية في البداية، فـإن الفتـاة فايزة قد مال قلبها إليه، وارتاحت له كثيرا، واألب شعر بذلك وشاركها إحساسها، فقد رأى في عادل نموذج الشاب الصالح

ثله زوجا البنته، هذا باإلضـافة الطيب المتدين الذي يتمنى م إلى شعوره بأنه لم يتبق له الكثير في هذه الدنيا وابنته الوحيدة ليس لها أحد من بعده، ومن الصعب أن يتقدم لها مـن هـو أفضل من عادل، لذا فقد وضع ثقته فيه ووافق علـى إتمـام االرتباط، وتمت مراسم الزواج والزفاف دون حضور أحـد

وكانت هديتهم ألخيهم بمناسبة زفافـه رفـع خوة عادل، إمن قضية أخرى عليه يطعنون فيها في إدارته لسلسلة المحـالت ويؤكدون أنه أساء ألسرتهم إساءة كبيرة بزواجه من فتاة دون مستواهم، ولذا فإنهم يطالبون برفع يده عـن إدارة المحـالت

. وتعيين أحدهم مكانه، وكان مصير هذه القضية كسابقتهان والد فايزة قد توفي بعد زواج ابنته بأسابيع قليلـة، وكا

وكان حزن عادل عليه كبيرا، ففي الفترة القصيرة التي عرفه فيها شعر كما لو أنه يذكره بوالده الراحل، وحين رحل كـان شعوره أن أباه مات للمرة الثانية، أمـا حـزن فـايزة فمـن

Page 48: 5472

٤٧

موعهـا الصعب أن توجد الكلمات الكافية لوصفه، وكانـت د تنهمر انهمارا وهي ترتمي في أحضان زوجها وتتشبث بـه

لم يعـد لـي : سائلة إياه بصوت يغلب عليه التوسل والرجاء سواك اآلن يا عادل، هل يمكن أن تتركني وتتخلى عني يوما

ما؟ فكان عادل يحتويها في صدره ويمسح علـى شـعرها

م يا حبيبتي؟ ما هذا الكال : ويجفف دموعها، ويقبل جبينها قائال أتعتقدين أنني بعد أن اخترتك بإرادتي وقلبي وعقلي، يمكن أن

يخطر ببالي يوما أن أتخلى عنك؟ ربما تفضل : ويستمر فيضان الدموع غزيرا وهي تقول

خوتك، وهم أقرب إليك منيإعلي . أنـت : فيبتسم عادل ويربت على وجنتيها في حنان قائال

وصديقتي، وكل أهلي، لقد تأكدت حبيبتي، وزوجتي، وأختي، بعد زواجنا، أن اهللا قد أرسلك لي هديـة ثمينـة، ال يمكننـي

. التفريط فيها أبداتسللت ابتسامة صغيرة حزينة إلى شفتي ووجه فـايزة،

أنت الهدية الحقيقيـة يـا : وقالت في امتنان وحب واضحين . عادل، وتعويض السماء عن كل ما ومن فقدت في حياتي

Page 49: 5472

٤٨

: إليه عادل ثانية، قائال بكل حنان وحـب الـدنيا ضمها أعاهدك على أن أبذل قصارى جهدي لتعويضك عـن كـل

. شيء، وإعادة البسمة إلى شفتيكومضت أربعة سنوات على زواج عادل وفايزة، اقتربـا فيها من بعضهما إلى حد االمتزاج، وضاعف من هذا القرب

هما، هي ابنتهما وردة صغيرة جميلة يانعة، عبق أريجها حيات . سلوى، بهجة وفرحة وأمل حياتهما

وفي يوم، بدأ عاديا في بدايته كبقية األيام، استيقظ عادل في ميعاده المعتاد على لمسة رقيقة من يـد زوجتـه علـى

: ت وجهه ابتـسامة واسـعة، وقـال وجنته، ففتح عينيه ومأل . صباح الخير يا حبي

نـت قـد سـبقته فـي بادلته فايزة ابتسامته بمثلها، وكا صباح النور يا حبيبي، هيا : االستيقاظ بفترة، ككل يوم، وقالت

. كي ال تتأخرال أريـد : تثاءب عادل وقال في احتجاج طفولي ضاحك

الذهاب للمدرسة اليوم، أريد أن أكمل نومي وأظل باقي اليوم . معك يا ماما

Page 50: 5472

٤٩

لـست أدري مـاذا : انفجرت فايزة في الضحك، وقالت تكبر سلوى وتدخل المدرسـة، سيـصبح لـدي سأفعل حين

. تلميذين كسولين كبيرينلم تكد تأتي على ذكر سلوى، حتى ارتسم الحنان بأجلى

سـلوى، حبيبـة بابـا، هـل : صوره على وجه عادل وقال ؟ استيقظت

لـيس بعـد، : ابتسمت فايزة بحنان هي األخرى وقالت .ستصحو بعد قليل، بعد أن ينهض أبوها الكسول أوال

وأتبعت العبارة األخيرة بجذب الغطاء عنه، ثم جذبته هو هيا انهـض وبـسرعة قبـل أن : من ذراعه هاتفة في مرح

. يغضب ناظر المدرسة ويعاقبكتصنع عادل الخوف وهو ينهض ويسرع إلـى الحمـام وضحكات زوجته تتابعه، ثم اتجهت هي للمطـبخ لتـستكمل

عام ريثما يغتـسل إعداد طعام اإلفطار وتضعه على مائدة الط . زوجها ويرتدي ثيابه

وبعد دقائق كانا يجلسان على مائدة اإلفطـار يتبـادالن المزيد من الدعابات واألحاديث الضاحكة، حتى انتهيـا مـن

Page 51: 5472

٥٠

طعامهما، فودع عادل زوجته بقبلة رقيقـة، وودعتـه هـي . بابتسامة حلوة ودعوات بالتوفيق والرزق الوفير

األمور في المنزل، ثم مـع وبعد نزوله انشغلت ببعض طفلتها الصغيرة التي لم تكمل عامها الثالـث بعـد، والتـي

. استيقظت بعد نزول أبيها بقليلومضى الوقت، حتى منتصف النهار، وهو الميعاد الذي اعتاد عادل الرجوع لمنزله فيه لتناول طعامه، ثم العودة ثانية

زوجهـا فـي للمحالت، وانشغلت فايزة بإعداد طعام الغداء ل المطبخ، وابنتها تلعب على مقربة منها، حتى سـمعت فجـأة رنين جرس الباب، ولسبب ال تعرفه، انقبض قلبهـا فجـأة، وتوالها قلق مبهم غريب، وهي تتجه إلى الباب لتفتحه، وحين فعلت كان هناك عامل من عمال محالت زوجها عادل، كانت

منكـسا رأسـه، قد رأته معه من قبل، وكان واقفا على الباب واالرتباك واالضطراب يبدوان واضحين عليه، فتضاعف قلق

: نها صرخت إفايزة وانقباض قلبها ألف مرة على األقل، حتى ماذا حدث يا أسطى علي؟

Page 52: 5472

٥١

مضت لحظات عجز خاللها األسطى علي عن النطـق، .... األستاذ عـادل .... الـ: ثم نطق بكلمات متعثرة متقطعة

. ونقل للمستشفى..... و... سيارةتعرض لحادث.... لقدصرخت فايزة بأعلى صوتها، وكادت أن تقـع مغـشيا عليها لوال أن تماسكت في آخر لحظة وصاحت في صـوت

أي مستشفى؟ : مختنقلم تدر كيف أبدلت ثيابها في ثوان معدودة، وحملت ابنتها وانطلقت لتستقل تاكسيا لم تتوقف عن استعجاله حتى وصلت

، التي سبقها إليها العامل الذي نقل لها الخبر، وبقية المستشفىالعمال، الذين كانوا جميعا يكنون كل الحب والـوالء لـرب عملهم، وكانت دموعهم تنهمر من أجله، وألسنتهم ال تكف عن الدعاء له بالنجاة، ولكن الطبيب الـذي خـرج مـن غرفـة

ـ ق العمليات كانت مالمحه تنطق بأن السهم قـد نفـذ، لتنطلصرخة فايزة مدوية، ويغمى عليها بحق هذه المـرة ولمـدة

. طويلةوأفاقت فايزة على الواقع المـر الحـزين، لقـد رحـل زوجها، وحبيبها، ووالد ابنتها الوحيدة، وتركهما وحيدتين في

خوته، الذين لم تؤثر فيهم وفاة أخيهم إال باإلحساس أنها إوجه

Page 53: 5472

٥٢

دئ ذي بدء على كل فرصتهم وقد جاءتهم، فوضعوا أيديهم با شيء، حتى شقة أخيهم بما فيها من متعلقاته ومتعلقات زوجته

لى شـقة إوابنته الطفلة، واضطرت الزوجة المسكينة للعودة والدها القديمة الصغيرة، التي احتفظت بها للذكرى، أو ربمـا كان قلبها يشعر أنها ستتعرض لمثل هذا الموقف يوما ما ولن

. تجد غيرها مالذاوهمس في أذنها العامل المخلص، األسطى علي، بعنوان محام، أكد لها أنه يحب الخير ويـساعد المحتـاجين وغيـر

خـوة زوجهـا إالقادرين، وأنه واثق أنها ستحتاجه قريبا ألن الراحل لن يمكنوها من نيل أي حق لها والبنتها فـي تركـة

. زوجها بسهولةالثالثـة رفـع خوة وهذا ما حدث بالفعل، فقد حاول اإل

قضية يطالبون فيها بإسقاط حق زوجة أخـيهم وابنتـه فـي وراثته، بحجة أن الزوجة دون مستوى األسـرة وتزوجـت أخاهم طمعا في ثروته، ولكن رفضت القـضية كـسابقتيها،

. بفضل المحامي الذي لجأت له فايزة وتحمس لهاإال أن األشرار الثالثة لم يستسلموا حين أصـبح لزامـا

لـى إخفـاء إهم تسليم فايزة حقوقها هي وابنتها، وعمدوا علي

Page 54: 5472

٥٣

الكثير من التركة ليتضاءل حجمها، ونجحوا في تقليل نصيب فايزة وسلوى ابنتها إلى الربع تقريبا، دون أن تستطيع فـايزة

. أو محاميها إثبات ذلكولم تجد سوى تفويض أمرها هللا وحده، وتسلمت المبلـغ

وتعيش من ريعه هـي وابنتهـا، وقررت أن تضعه في البنك وأن يظل أصل المبلغ باقيا كما هو لتستعين بـه علـى زواج ابنتها سلوى في المستقبل، فهو الشيء الوحيد الذي تملكه في

. هذه الدنياوقررت أيضا بعد أن وصلت ابنتها لسن الحـضانة أن تلتحق بأي عمل يسلي وقتها وينسيها همومها وأحزانها ويزيد

. تنفق على ابنتها وتلبي لها كل طلباتهادخلها لوبمساعدة نفس المحامي الذي وقـف معهـا، التحقـت بالعمل كسكرتيرة ألحد رجال األعمال ممن سبق وتعامل مع المحامي، الذي مدح له في فايزة كثيرا حتـى وافـق علـى

. تعيينهاوبمرور الوقت أثبتت فايزة مكانتها في عملهـا وكانـت

د إعجاب صاحب العمل، ويدعى سامي، بها شعلة نشاط، وزا . يوما بعد آخر

Page 55: 5472

٥٤

ثم جاء يوم بعد عملها بفترة ومعرفته لظروفها وجانـب كبير من قصتها، وعرض عليها الزواج، وكانت مفاجأة غير متوقعة لها، إال أنه أكد لها أنها اإلنسانة التي كان يبحث عنها

أوالدا، منذ رحيل زوجته من عدة سنوات دون أن تنجب لـه فمن وقتها لم يحب أو يشعر بإعجاب مثلما شعر به تجاههـا،

. وسيكون سعيدا جدا لو بادلته شعورهوبالنسبة لسلوى فاطمئني، كما قلت لك فـإنني : وأضاف

. لم أرزق أطفاال، وسلوى ستكون ابنتيهذه مفاجأة غير متوقعة يـا : ازدردت فايزة ريقها وقال

... يسيدي، وفي الحقيقة فإننأرجوك ال تعطيني جوابـا اآلن، فكـري : قاطعها سامي

. جيدا أوال فيما قلته لك، ثم ردي عليوكان على لسان فايزة لحظتها أن تعلن رفضها وتمسكها بالعيش على ذكرى زوجها الذي أحبته، وكان له فضل عليها في انتشالها مما كانت عليه، على األقل خالل فترة زواجهـا

نه منحها هدية رائعة هي ابنتهما سلوى، وهي هدية به، كما أ . تستحق العيش من أجلها والتفرغ لها

Page 56: 5472

٥٥

ولكن األيام التالية جعلتها تفكر فيما لم تالحظه من قبل، وهو أن سامي صاحب الشركة يشبه زوجها الراحـل شـكال وموضوعا، فمالمحه ال تختلف عنه كثيرا، وطباعه وطريقـة

. كأنه هو زوجها الراحل عادلمعاملته مع من حوله كما أنها ليس لها أقارب، ولو كانت تحب ابنتهـا حقـا وتريد تربيتها وحمايتها والحفاظ عليها، فلن تستطيع فعل ذلك وحدها، وجود رجل مثل سامي في حياتهما سيسهل المهمـة كثيرا، وبعد تفكير طويل وتردد غير يـسير انتهـى رأيهـا

سامي، وأبلغته بذلك فكانت سـعادته للموافقة على الزواج من كبيرة، وأكد لها أنه لن يجعلها تندم أبدا على قرارهـا هـذا، وسيبذل قصارى جهده لتعويضها عن كل ما فات وليكون نعم

. الزوج لها واألب البنتهاوتم الزواج فعال، لتكتشف فايزة بعده أنها لـم تخطـئ

زوجها الـسابق وأنها تزوجت فعال من صورة قريبة جدا من في طباعه وأخالقياته وخصاله الجميلة وحنانـه وحبـه لهـا

ن الطفلة الصغيرة، ودون توجيه لها بـذلك، إوالبنتها، حتى . أصبحت تلقائيا تناديه بابا

Page 57: 5472

٥٦

وفي يوم عاد من عمله مبكـرا علـى غيـر العـادة، وانزعجت فايزة وتصورت أن مكروها ألم به لكنـه ابتـسم

. ا أن تغمض عينيها وتستعد لمفاجأة سارةوطمأنها وطلب منهوفعلت ذلك وبعد ثوان سمعته يقول لها أن تفتح عينيها، وفتحتهما فوجدته يمد إليها يده بعقد ملكية، لم تفهم في البداية ولكنها حين قرأت المدون في العقد شهقت في ذهول عـارم، ودعكت عينيها عدة مرات للتأكد مما تراه، كان عقد ملكيـة

لسلة المحالت التي كان يديرها زوجها األول، والتـي لـم ستحصل سوى على جزء صغير من نصيبها ونـصيب ابنتهـا

!! فيها، والمفاجأة الصارخة المذهلة أن العقد كان باسمها هيرفعت عينيها لسامي زوجهـا وهمـا ممتلئتـين لهفـة

الحكاية ببـساطة أن : وتساؤال، فابتسم ابتسامة عريضة وقال خوة األشرار الثالثة اعتقدوا أن كل العقبات قد زالت مـن األ

طريقهم بوفاة شقيقهم رحمه اهللا، فقلبـوا سياسـة المحـالت، وتعاملوا مع الزبائن على نقيض ما كان هو عليـه، فهـرب منهم الزبائن بطبيعة الحال وقل عائد المحالت، وألنهم لم يكن

ا لطمعهـم العائد األصلي وال حتى أكثر منه يكفـيهم، نظـروشراهتهم الالمحدودين، فقد قرروا رهن كل شيء، المحالت

Page 58: 5472

٥٧

وشقة المرحوم، وأمالك أخرى خاصة بهـم وسـحب كـل السيولة النقدية من البنوك، ووضع كل هذا في صفقة تهريب ضخمة جدا ممنوعة قانونا، كانوا يأملون من وراءهـا فـي

فقة، تحقيق أرباح خيالية ولكن خاب أملهم، وانكـشفت الـص وسقطت في أيدي الشرطة قبل أن تتم، وتمت مصادرتها كلها مقابل اإلفراج عنهم وعدم حبسهم، واسـتولى الديانـة علـى المحالت والشقة وباقي األمالك كلها ولم يتركوا لهـم شـيئا، وعرضوها للبيع، وحين علمت بذلك تقـدمت علـى الفـور

.لشرائها وتسجيلها باسمكوهاك عقـد : خر قدمه لها قائال آوأخرج من جيبه عقدا

الشقة أيضا، وبالمناسبة معظم متعلقاتك ومتعلقات سلوى مـا . زالت هناك

اغرورقت عينا فايزة بالدموع وعجز لسانها عن التعبير، فاكتفت بإسناد رأسها لكتف سامي، ونظراتها تنطق باالمتنان والحب، كل الحب الذي تفجر ينبوعه من جديد في قلبها ألول

. مرة منذ رحيل عادلهناك أمر : وأحاطها سامي وهو يبتسم مرة أخرى ويقول

خر، إن األخوة الثالثة عز عليهم مفارقة المحالت التي كانت آ

Page 59: 5472

٥٨

ملكهم يوما ما، ولقد أشفقت عليهم في الواقع، فعرضت عليهم نهم اآلن إاالستمرار في المحالت كعاملين فيها، ووافقوا، أي

. مجرد عمال عندكوألول مرة أيضا منذ رحيل عادل، أطلقت فايزة ضحكة صافية مرحة عالية، شاركها فيها زوجها سـامي، ثـم وقـع بصراهما على آية قرآنية معلقة على الجدار، فتوقفا ورددا في

. ﴾إن ربك لبالمرصاد﴿: خشوع

Page 60: 5472

٥٩

القسم الثاني القسم الثاني

للصغار فقطللصغار فقط

Page 61: 5472

٦٠

نهاية الشر نهاية الشر ن، كان هناك ملك عظيم الشأن والسلطان، في قديم الزما

وله من الجاه والعبيد ما ال يحصى عدده، لكن كـان هنـاك شيء واحدا فقط، ينغص عليه سعادته وهنـاءه، كـان هـذا

لمن سيورث عرشه وملكه من بعده؟ فلم يكن لهذا : الشيء هو الملك وريث لعرشه، ولكن فجأة جاءه الخبر السعيد، بحمـل

فأقام األفراح والليالي المالح، وأطعم الفقراء، زوجته الملكة، ن األوان لكـي آوذبح الذبائح، واستوفت زوجته أيام حملها، و

تخرج جنينها إلى الحياة، وجاء يوم، خرجت فيه روح للـدنيا في ذات الوقت الذي انصرفت فيه روح أخرى منهـا، فلقـد

الملك ماتت األم المسكينة، وهي تلد ابنها، وعلى قدر ما فرح بابنه ووريث عرشه، على قدر ما حزن على زوجته الوفيـة،

، منذ ذلـك اهتمامهثم لم يلبث أن صبر وسلم أمره هللا، ووزع اليوم، ما بين ابنه وشعبه، وحرص على أن يحضر المعلمين والمربين لألمير الصغير بمجرد أن سمح عمره بذلك، والحق

الذكاء، فتجـاوب أن األمير كان على قدر كبير من الوسامة و مع معلميه بسرعة وكان محبوبا من الجميع، إال أنه لما أصبح في الخامسة عشرة من عمره، حدث له ما كدر عليه حياتـه

Page 62: 5472

٦١

وحياة والده الملك، وما قضى على سعادة هذا األخير بوريث عرشه الصغير وهو يكبر ويترعرع أمام عينيه، فقد أصـيب

كل أعضاء جسمه حتـى األمير الصغير بمرض مفاجئ جعل لسانه كقطعة من الحجر، ولم يعد يتحرك فيه غيـر عينيـه، وحار األطباء كلهم في عالجه، فبعث الملك المنادين في كـل أنحاء مدينته، يطلب عن طريقهم األطباء والجراحين، ويعـد من ينجح منهم في شفاء ابنه األمير الصغير بمكافأة ثمينـة ال

منهم يجربـون ويحـاولون بمختلـف مثيل لها، فأقبل العديد الوصفات الطبية مع األمير دون جدوى، حتى أصبح الملـك في قمة اليأس والحزن على صغيره، وذات يوم، جـاء إلـى القصر رجل غريب، لم يره أحد في المدينة من قبل، ويرتدي ثيابا عجيبة، وطلب مقابلة الملك، فنظر له الحراس الذين في

: سألوه عما يريده من الملك، فقال لهم القصر بتعجب ودهشة و نني جئت ألعالج األمير الصغير، فاستخف بـه الحـراس، إ

فـألح .لقد حاول كثيرون قبلـك دون أن ينجحـوا : وقالوا له عليهم الرجل الغريب، وأصر على مقابلة الملك، فلـم يجـد الحراس أمام إلحاحه وإصراره بدا من الموافقة، فأدخلوه على

Page 63: 5472

٦٢

ستئذانه، فحياه الغريب، فرد عليه الملـك تحيتـه، الملك بعد ا ماذا تريد؟ : وقال له

لقد أتيت يا مـوالي ألعـالج مـوالي : الرجل الغريب . األمير

لقد حاول كثيرون قبلـك أن يعـالجوه وفـشلوا : الملك . جميعا

موالي، إني واثق من قدراتي، وأعرف : الرجل الغريب . جيدا أنني أستطيع عالج األمير

ومن أين لك هذه الثقة المفرطة؟ ): باستغراب(ملك الألني درست حالة األمير جيدا، وأعرف : الرجل الغريب

. ما أصابه، وسببه، وعالجه، ومن الذي تسبب فيه أيضاماذا تقول؟ هل ما أصاب ابني األمير ): في دهشة (الملك

بفعل فاعل ما؟ ثم، ثم كيف عرفت أنت كل هذا؟ ال أظن أنك ت إلى هنا من قبل ورأيت األمير، بل إنك حتى لـست قد جئ

من المدينة، وحتى من عالجوه لم يعرفوا سر مرضـه، ولـم يستنتجوا أنه بفعل فاعل، فكيف عرفت كل هذا دون أن ترى

األمير؟ . يته وعرفته جيدا يا مواليأبل ر: الرجل الغريب

Page 64: 5472

٦٣

رأيت األمير؟ أين رأيته؟ ): متعجبا(الملك ج الرجل الغريب كرة عجيبة الشكل مـن وهنا، أخر

في هذه الكرة السحرية يا : حقيبته، ليس لها لون محدد، وقال . موالي

كرة سحرية؟ : ردد الملكنعم يا موالي، فأنا لست طبيبا كما قـد : الرجل الغريب

يتبادر لذهنك، وإنما أنا ساحر، ساحر كبير من إحدى الـبالد رة المـسحورة، أرى فيهـا أي البعيدة جدا عن هنا، وهذه الك

مكان أرغب فيه في العالم كله بمجرد ذكر اسـمه وتحديـده، كنت أشعر بالملل، ففكـرت فـي أن أتـسلى . ومنذ عدة أيام

برؤية بالد بعيدة جدا عن بالدي، ألني رأيـت كـل الـبالد القريبة منها وحفظتها، واخترت بالدك يا موالي، فأخرجـت

إلى السوق بالذات، كما هي عادتي الكرة ونظرت فيها إليها، و مع أي مدينة أرغب في رؤيتها كلها في كرتي هذه فالـسوق دائما بالنسبة ألي مدينة هو أكثر األماكن التي يمكـن جمـع المعلومات واألخبار عن المدينة كلها فيه، ورأيـت وسـمعت المنادي في الكرة وهو يعلن مرض األمير، والمكافأة السخية

ها يا موالي من يشفيه، فحولت الكرة إلى هنـا التي وعدت ب

Page 65: 5472

٦٤

في هذا القصر، وإلى غرفة األمير بالتحديد ورأيته وعرفـت مرضه وسببه وعالجه ومن تسبب فيه كما قلت، وفكرت في عالجه، ولدي خاتم مسحور، إذا لبسته ودلكته جيدا وأنا أذكر

ير اسم أي مدينة كانت، ينقلني إليها في لمح البصر، وبعد تفك صح عزمي فعال على المجيء إلى هنـا وعـالج األميـر، فأعددت العالج ووضعته في حقيبتي مع الكـرة الـسحرية، وارتديت خاتمي ودلكته وأنا أذكر اسم مدينتك يا موالي، وفي لمح البصر كما قلت كنت فيها، ثم سرت حتى وصلت إلـى

تي أمامك يا موالي، تلك هي حكاي اهنا في هذا القصر، وهاأنذ . من أولها ألخرها

: إنها حكاية عجيبة حقا، ولكنك لم تخبرني بعـد : الملك من الذي فعل كل هذا بولدي األمير؟

أرى أنه من األفضل أن يقول لك هذا يا موالي : الساحر . موالي األمير بنفسه بعد شفائه بإذن اهللا

ولكن كيف ستعالجه؟ : الملكته بهـا سـائل يخرج زجاجة صغيرة من حقيب : (الساحر . بهذا يا موالي): أخضر اللون وما هذا؟ : الملك

Page 66: 5472

٦٥

إنه خالصة أعشاب معينة، ال ينفع غيرها فـي : الساحر . عالج األمير، وال تزرع إال في بالدي

وهل أنت واثق من نتيجتها؟ : الملكبالطبع يا موالي، لقد جربته من قبل في عالج : الساحر

ر على اإلطالق، ومفعوله حاالت كثيرة مماثلة، وهو غير ضا . أكيد

حسنا، سأتوكل على اهللا وأسـمح لـك بعالجـه، : الملك . وأدعو اهللا أن يجعل شفاءه على يديك

. فليطمئن قلبك يا موالي: الساحرفنادى الملك بعض خدمه وأمرهم بأخذ الـساحر لغرفـة األمير، وجلس متوترا خائفا يفرك كفيه ببعضهما في قلق، ولم

: ساعة حتى جاء أحد خدمـه يـصيح مـتهلال تمض نصف موالي، أبشر يا موالي، لقد نجح ذلك الرجـل، لقـد شـفي

. موالي األمير أخيرا، وتحرك وجلس أمام أعيننا جميعا هل أنت جاد؟ : فقال الملك في لهفة بالغة

كل الجدية يا : أجابه الخادم في سعادة وفرحة ال مثيل لها . موالي الملك

Page 67: 5472

٦٦

لك إلى حجرة ابنه األمير، ورآه جالـسا فـي فاندفع الم فراشه، ووجهه متورد بالحيوية والنشاط والصحة والعافيـة، فلم يتمالك األب نفسه أن احتضن ابنه وقبله والدموع تنهمـر

الحمـد هللا : من عينيه في غزارة شديدة، وقال في فرح طاغ . الذي من عليك بالشفاء أخيرا يا ولدي الحبيب

أبـي : ير بعد أن ارتمى في أحضان أبيه بدوره فقال األم . اقبض عليه يا أبي، ال تدعه يهرب

من هو يا بني؟ ): في دهشة(الملك . وزيرك يا أبي: األمير من؟ ): صائحا في دهشة عارمة هذه المرة: (الملك

وزيرك يا أبي إنه هو الذي تسبب فـي ): مكررا(األمير . بيركل هذا الذي أصابني، إنه خائن ك

ولكـن كيـف؟ ): غير مصدق نفسه وما يسمعه (الملك ... ولماذا؟ و

اقبض عليه أوال يا أبي، ثم أقـص ): مقاطعا أباه (األمير . عليك كل شيء

Page 68: 5472

٦٧

فسارع الملك بإصدار أوامره لحرسـه بـالقبض علـى الوزير الخائن، وإيداعه السجن، وتمكـن الحـراس مـن أن

ن يهرب، ثم عـاد الملـك يلحقوا به في اللحظة األخيرة قبل أ نه بإلقاء القبض على الوزير، ثم طلب منـه ألغرفة ابنه، وطم

كنت جالسا أقرأ هنا في حجرتي : أن يحكي له كل شيء، فقال يوم جاءني ذلك الوغد، واستأذنني في الجلوس معي لـبعض

: الوقت فأذنت له، وجلسنا نتحدث قليال ثم قـال لـي فجـأة احب وجسدك ناحل، إنك بحاجة موالي، ما هذا؟ إن وجهك ش

شراب مقو؟ قال في حماس : لشراب مقو، فقلت في استغراب نعم، ورفع الزجاجـة : وهو يخرج زجاجة صغيرة من جيبه

مثـل : حمر اللون، وقال لي أبين يديه أمامي، كان بها سائل كما قلت لـك، : وما هذا؟ قال لي : هذا الشراب، قلت في شك

ل تريد أن تجربه؟ وقبل أن أنطق شراب مقو، إنه مفيد جدا، ه بحرف واحد، فوجئت به يرش من السائل الذي في الزجاجـة على وجهي، ثم يتمتم بكلمات عجيبة غريبة غير مفهومة على

: اإلطالق، ويحرك يديه بحركات غريبة عجيبة أيضا، ثم قال فلتتحول لتمثال من الحجر، ال يتحرك فيه غير عينيه، فصرت

: ضحكة شريرة، وصاح في حماس وانفعـال فأطلق . كما قال

Page 69: 5472

٦٨

لقد نجحت، إنك ال أمل لك في الشفاء قط، إال بعشب سحري لقد ضـمنت . ال يوجد وال يزرع هنا وإنما في بالد بعيدة جدا

أن يكون العرش لي بعد والدك، وأطلـق ضـحكة شـريرة أخرى، ثم حملني لفراشي وأرقدني عليه، ورمقنـي بنظـرة

لى إغرفة بحذر وأطل منه، ولما اطمأن ساخرة، ثم فتح باب ال . عدم وجود أحد خرج وتركني لعذابي

ن أنهى األمير الصغير قصته، حتى ارتسم مـزيج إوما من الغضب الشديد واأللم العميق على وجـه والـده الملـك

نـه سـينال إلعنة اهللا عليـه، : واستبد به الغيظ البالغ، ثم قال جن مدى الحيـاة، ثـم جزاءه العادل، لسوف أحكم عليه بالس أما أنت أيها الرجـل : التفت إلى الساحر الذي عالج ابنه قائال

الطيب، فإني مدين لك بحياة وحيدي، ولن أعطيـك المكافـأة التي وعدت بها وحسب، بل سأجعلك وزيرا لي بدال من ذلك

فشكره الساحر بحرارة، وأخلـص فـي . الخائن الوغد الغدار اإلخالص والتفاني، وواصل الملك عمله وتفانى فيه ما وسعه

حكمه العادل لشعبه، واهتمامه بابنه األمير، الذي ظل يكبـر أمام عيني والده الذي تزداد فرحته به يوما بعد يوم، وأحبتـه الرعية كذلك لطيبته وذكائه وكرم أخالقه، كما أحبت والـده،

Page 70: 5472

٦٩

فعاش سعيدا بحب شعبه له، وأخلص له أثناء حياة والده ومن ده عندما أصبح ملكا، أما الوزير الخائن، فقـد مـات فـي بع

. سجنه بعد عدة سنوات، وهذه نهاية الشر العادلة

Page 71: 5472

٧٠

الجزاء من جنس العمل الجزاء من جنس العمل كان هناك في قديم الزمان، بلدة صغيرة جميلة، يعـيش أهلها في أمن وسالم وطمأنينة، ال يقلقهم شـيء أو يخـيفهم

ودة، وتظللهم الـسعادة أحد، وتجمع بينهم أواصر المحبة والم بهذا العيش الرغد، ولكن، وآه من لكن هذه، أثبتت األيـام أن دوام الحال من المحال، فقد هجم على هذه البلدة عدو شرير، من بعض البالد القريبة، طامعا في نيل خيراتها، وحاقدا على هناء عيشها، فدمرها وأبادها، وأهلك الحرث والنسل، وأتـى

ليابس، لم يترك أحدا من أهل القرية سـالما، على األخضر وا ال فرق بين كبير وصغير، أو رجل وامرأة، أو شاب وشيخ، الكل أخذوا ما بين قتيل وأسير، ولم ينج منهم أحد عدا شـاب واحد، استطاع أن يهرب من بلده قبل أن تمتد إليه أيدي العدو

معه الغادر، وسار في طريقه يعتصره الحزن واأللم، ولم يكن من الزاد والمتاع إال القليل، فلم يترك له العدو فرصة ليأخـذ معه الكثير، وكان هذا الشاب صالح تقي أمين، يـساعد كـل محتاج ما دام قادرا، فلقي في طريقه طفل صـغير يكـاد أن يغرق في نهر، وصاح الصغير يستغيث بالـشاب، ويرجـوه

إلـى النهـر، العون واإلنقاذ، فلم يتردد، وخلع ثيابه وقفـز

Page 72: 5472

٧١

لى الصبي وأخذ بيده وسبح به إلى الشاطئ وساعده إووصل على الخروج، وشكره الصبي الصغير بحـرارة، وانـصرف لحال سبيله، وارتدى الشاب ثيابه وأكمل سـيره، ومـر فـي طريقه برجل عجوز، يقف بجوار إحدى اآلبار حائرا، ولمـا

ر بعطش شديد، يا بني، إنني أشع : رأى الشاب استنجد به قائال وأرغب في إحضار بعض الماء من هذا البئر، ولكنه عميق، وال بد من نزول أحد إلحضار الماء منه، وأنا شيخ عجـوز كبير السن وال أقدر على ذلك، فهل يمكنـك يـا ولـدي أن تساعدني وتنقذني من الموت عطشا وتنزل لتحضر لي القليل

ووضـع من الماء؟ فسارع الشاب بربط حبل حول وسـطه طرفه في يد الشيخ، وحمل إناء كان معه ونزل البئـر ومـأل

ن رأى الماء في إاإلناء ماء ثم صعد بمساعدة الشيخ، الذي ما يد الشاب حتى أقبل عليه ملهوفا، وشرب حتى ارتـوى، ثـم شكر الشاب على إنقاذ حياته، ودعا لـه بـالخير والـسعادة،

تقـف تحـت وواصل الشاب سيره، وما لبث أن وجد امرأة شجرة عالية ومعها عدد من األطفال الصغار يبكـون وهـي

ن رأت الشاب حتى أقبلـت إتحاول إسكاتهم دون جدوى، وما هل يمكنك مساعدتي يا سيدي؟ إنني : عليه قائلة في استعطاف

Page 73: 5472

٧٢

امرأة فقيرة وال أجد ما أطعم به أطفالي الصغار حتى بكـوا رة مثمرة ثمـارا من شدة الجوع منذ وفاة والدهم، وهذه الشج

طيبة، وأوالدي منذ رأوها تعلقوا بها، ولكنها عالية وال يمكن الوصول لثمارها إال بتسلقها، وأنا ال أستطيع ذلك، فهل يمكن أن تقوم أنت بهذا وتنقذني وتنقذ هؤالء الصبية الصغار مـن الهالك جوعا؟ فسرعان ما كان الشاب يربط نفس الحبل الذي

وسطه وحول الـشجرة، ويتـسلق هـذه نزل به البئر حول األخيرة ببطء وحذر حتى وصـل ألعالهـا حيـث الثمـار الناضجة اللذيذة، فراح يقطفها ويلقيها ألسفل، فتلتقطها المرأة وتطعم بها أطفالها الجوعى حتى شبعوا، فأشارت للـشاب أن هذا يكفي، فنزل بنفس البطء والحذر، وألهج لـسان المـرأة

، ثم أكمل سيره مرة أخرى، وصادف نبعا بشكره والثناء عليه فجلس بجواره من تعب السير وشرب منه راويا . صافيا باردا

عطشه، وبغتة، فوجئ الشاب بضباب كثيف يحيط به ويحجب عنه الرؤية ثم تجسد هذا الضباب ببطء وبالتدريج، حتى ظهر أمامه شيخ طاعن في السن تتدلى لحيته البيـضاء الطويلـة،

: ، ويرتدي ثيابا غريبة غير مألوفة، وقال للـشاب على صدره مـا : بماذا تأمر يا سيدي؟ ففزع الشاب وارتعب، وقال خائفا

Page 74: 5472

٧٣

مـن هـذا : هذا؟ من أنت؟ ومن أين أتيت؟ قال الشيخ مبتسما النبع يا سيدي، فنقل الشاب نظره بين الرجل والنبع في ذهول

الجان، وقد إنني أحد ملوك : وهو ال يفهم شيئا، فأردف الشيخ سحرني ملك آخر أقوى مني وألقى بي في هذا النبع، وحكـم

ال أفارقه حتى يأتي شاب قوي صـالح مـؤمن أمـين أعلييشرب منه، وأنت أول من تنطبق عليه هذه األوصاف يـأتي ويشرب من هذا النبع، وبذلك أنقذتني وحررتني، ووجب علي

د لتنفيـذ أي أن أرد لك الجميل، فأنا طوع أمرك وعلى استعدا طلب تطلبه، وما عليك إال أن تأتي إلى هنا عند النبع وتصفق بيديك ثالث مرات، فأسمع الصوت حيثما كنت، وأحضر إليك مسرعا، ولكن بشرط أن تكون وحدك ولـيس معـك أحـد، واآلن، ما هو طلبك األول؟ فشعر الشاب بانفعال شديد، وقال

م، أعـيش فيـه أريد، أريد أن يصبح لي قصر فخ : في لهفة عيشة الملوك واألمراء والعظمـاء، أتنـاول فـاخر الطعـام والشراب، وأرتدي الثياب األنيقة، ويكون معي نقود كثيـرة،

السمع والطاعة يـا سـيدي، : كثيرة جدا، فانحنى الشيخ قائال أغمض عينيك، فأغمض الشاب عينيه وانتظر في ترقب، ولم

واآلن : شيخ يقول له تمض أكثر من ثوان معدودة حتى سمع ال

Page 75: 5472

٧٤

افتح عينيك أيها السيد العظيم، وفتح الشاب عينيه، ولم يجـد مامه على مسافة قريبة قصر كبيـر أالشيخ أمامه، ولكنه وجد وتبدو عليه آيات الفخامة والعظمـة، . ال مثيل له، يرتفع عاليا

ونظر لنفسه، فوجد أنه يرتدي ثيابا غاية في الروعة واألناقة مشى إلى القصر، فوجده ال يقل روعه وفخامة عن والجمال، ف

منظره الخارجي، ووجد فيه كل ما يحلم به وما ال يحلم بـه، كل ما يخطر على باله وما ال يخطر على بالـه مـن فـاخر األثاث والتحف والتماثيل والطعام والشراب، ووجـد حجـرة جميلة بديعة هي حجرة نومه، ورأى فيها مجموعة من الثياب

وخزانة كبيـرة . ة من نفس مستوى الثياب التي يرتديها الرائعمزينة بالجواهر الثمينة، وعندما فتحها عثر بداخلها على كمية ضخمة من النقود، تماما كما أراد، فشعر بفرحة وسعادة لـم يشعر بهما من قبل، ونسي كل ما كان يشعر به من أحـزان

يوم عيشة لما حدث ألهله وبلدته الصغيرة، وعاش منذ ذلك ال األمراء والعظماء، والملوك أيضا كما رغب وتمنـى، وكمـا تغيرت حياته تغيرت طباعه كذلك، فلم يعـد ذلـك الـشاب المؤمن الصالح التقي، وإنما أصبح شيئا آخر تماما، أصـبح يتسم باألنانية والطمع، وتحول كل تركيزه وتفكيـره للمـال

Page 76: 5472

٧٥

كانت، وانهالـت وكيفية جمع المزيد والمزيد منه بأي طريقة طلباته على ملك الجن، فال تكاد تمر بضعة أيام حتى يكون له

وصـار . طلب جديد، وكلها طلبات تدور حول الماديات فقط قاسيا مع غلمانه وعبيده، فـراح يكلفهـم مـا ال يطيقـون، ويضرب ويعذب من ال ينفذ أوامره منهم، ولم يعـد يـساعد

نبع كمـا هـي عادتـه المحتاجين، وذات يوم، خرج ذاهبا لل ليطلب المزيد من طلباته التي ال تنتهي، وقرر أن يتنزه قليال قبل ذهابه إليه، وفي طريقه، رأى طفـال صـغيرا مالبـسه ممزقة، يبكي من شدة الجوع، ويستعطفه أن يعطيـه كـسرة

أتقطـع : خبز يسد بها رمقه فنظر إليه في احتقار وقـال لـه سيره بال مباالة بالطفل الـذي نزهتي بسبب تافه كهذا؟ وتابع

يكاد يهلك جوعا ثم وجد امرأة تبكي أيضا وترجوه أن ينقـذ طفلها الرضيع الذي اختطفه بعض اللصوص وهربـوا بـه، فنظر إليها باستعالء قائال هذا شيء ال يخصني، أنقذيه أنت لو أردت، وواصل سيره والمرأة ينفطر قلبها حزنا على وليدها،

خ كبير السن، يمشي بصعوبة متكئا على عـصاه ثم التقى بشي من فضلك يا بني، هل يمكنـك أن : وقال له بصوت ضعيف

تساعدني وتساندني حتى أصل لمنزلي؟ إنه ليس ببعيد، ولكني

Page 77: 5472

٧٦

ضعيف كما ترى، وال تكاد قدماي تحمالني، فنظر له بكبرياء ابحث عن غيري، أو اكتف بهذه العصا، وأكمل طريقه : قائال

لنبع، وصفق بيديه ثالث مرات، وانتظر أن يظهر ملك حتى ا بل سمع صـوته ،الجن في الحال كما عوده، إال أنه لم يظهر

لن تراني مرة أخرى، لقد فشلت في االختبار الذي : فقط يقول وضعتك فيه، إنني لم أكن في هذا النبع كما أوهمتك، ولكنـي اختلقت هذه القصة ليمكنني اختبـارك، بعـدما رأيـت مـن

صالحك وتقواك، ولكنك فشلت فـشال ذريعـا، انظـر اآلن، وأيضا قبل أن تأتي لهذا النبع في المرة األولـى، كـل مـن رأيتهم هم من رجالي وأعواني، وليسوا محتاجين كما ظهروا لك، إنهم ليسوا إال محاولة الختبارك، نجحت فيها في المـرة

ل ملك يديك، األولى وفشلت بعد أن أصبح الجاه والنعيم والما وانظر لنفسك ستجد أنك ترتدي ثيابك القديمة الممزقـة التـي خرجت بها من بلدتك، ومعك متاعك القليل البسيط، وقد عدت لنفس النقطة التي لقيتني عندها، فأكمل رحلتك كمـا كنـت، وليكن هذا درسا لك تتعلم منه أنه ليس باألموال يعظم النـاس

ال، وأنه إذا أصـبحت غنيـا ويعلو شأنهم وإنما بصالح العم وتملك الثروات، فعليك أن تتذكر دائما أيام فقرك وحاجتـك،

Page 78: 5472

٧٧

وأنك مهما عال شأنك وارتفع، فهناك دائما من هـو أعلـى، وكذلك فإن دوام الحال من المحال، والجزاء دائما، من جنس

. العمل

Page 79: 5472

٧٨

زارع الخير حاصده زارع الخير حاصده ******

وزارع الشر حاصدهوزارع الشر حاصده حطاب فقير بائس، يجمع قـوت في قديم الزمان، عاش

يومه بصعوبة، وبالكاد، من عمله كحطاب، ويـدعو اهللا كـل صباح قبل ذهابه لعمله، أن يرزقه الرزق الحـالل الطيـب، الذي يكفيه ويسد حاجته، وكان على فقره، رجال كريما طيبا، ال يبخل بمعونته على مخلـوق محتـاج، طالمـا يـستطيع

لك إلـى حرمـان نفـسه مـن مساعدته، حتى لو أدى به ذ الضروريات، وذات صباح، استيقظ مبكرا كعادتـه، فتوضـأ وصلى، ودعا اهللا، وسأله من فضله، ثم حمل فأسه، وتوجـه للغابة القريبة التي اعتاد االحتطاب بها، وبدأ العمـل، فـراح يقطع أخشاب األشجار، ويجمعها استعدادا لبيعها، وبينما يعمل

لصغيرة، إذا ضربت فأسه دون قـصد حدى األشجار ا إلقطع باألرض، فشعر كما لو كان قد اصـطدم بـشيء معـدني، فصرف اهتمامه عن الشجرة لهذا الشيء وراح يحفر حولـه،

ن أزاح الرمال عنه وظهر أمامه، حتى أطلـق شـهقة إوما

Page 80: 5472

٧٩

غالية، واتسعت عيناه في ذهول، فقد كان صـندوقا كبيـرا، م بقفل كبير، ولما كسر القفـل مزينا باألصداف ومغلقا بإحكا

بفأسه، وفتح الصندوق، وتحقق من صحة ما توقعه وخمنـه، كاد أن يغمى عليه لوال أن تمالك نفسه بصعوبة، فلقد لمعـت أمامه جواهر من مختلف األنواع واألحجام واألشكال ودنانير ذهبية ال يحصي لها عددا، بل وسبائك ذهبية كثيـرة، كثيـرة

رخ الرجل في لهفة ودهـشة بالغـة، وراح ص! إنه كنز ،جدايقلب األموال والجواهر والسبائك في يده وهو ال يكاد يصدق

إن هذه ثروة طائلة، ولكن ترى من : عيناه، وأخذ يحدث نفسه صاحبها؟ ولم دفنت هنا؟ وأهم من ذلك كله، ماذا أفعـل بهـا

خـذها آاآلن؟ هل أحاول البحث عن صاحبها ألردها لـه، أم أعوض بها الفقر الذي أعانيه وأبعده عنـي لألبـد؟ لنفسي، و

وأخذ يفكر قليال، وهو يعبث بيده في الكنز الهائل، ثم ما لبث نعم، : الشيطان أن تغلب عليه وسيطر على تفكيره، فقال لنفسه

علي أن أعوض سنوات الفقر والحرمان، إن هذا الكنـز أنـا الذي وجدته، ومن ثم أصبح ملكي، وليس له مـن صـاحب

غيري ألبحث عنه، وأخذ الرجل الكنز، وذهب للمدينة القريبة واشترى أفخم قصر فيها، وابتاع فـاخر األثـاث والمالبـس

Page 81: 5472

٨٠

والطعام والشراب، وأصبح له عـشرات الغلمـان والعبيـد، وتبدلت حياته كلية، من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، ولكن

الكرم والجود طباعه أيضا تبدلت وأخالقه تغيرت، فتحول من والنيل والطيبة وإيثار الغير، إلى البخـل والـشح والطمـع واألنانية، وأصبح كل همه جمع المزيد والمزيد مـن المـال، وصار قاسيا شديدا عنيفا على غلمانه وعبيده، يكلفهم مـا ال يطيقون، ويعذب من يجرؤ على عصيان أوامره عذابا شديدا،

مسكين أو محتاج، مهما كانـت وأصبح ال يساعد أي فقير أو حاجته للمعونة، وفي يوم، خرج ليتنزه قلـيال فـي شـوارع المدينة، وكان وراءه جيش من الحراس المسلحين، لحراسـته وحمايته، فاعترض طريقه رجل عجوز يتوكأ علـى عـصا،

أيهـا : وطلب منه إحسانا، فنظر إليه بغضب، وصـاح فيـه تافـه كهـذا؟ وتركـه العجوز األحمق، أتقطع نزهتي لسبب

جاء إليه رجل أنيق وسيم، تبدو عليه . ومضى وبعد عدة أيام مخايل النعمة واليسار، ويبدو على مظهره الثـراء، وطلـب مقابلته، وحين دخل عليه، سأله الحطاب الفقير سـابقا، عمـا

أال تسألني من أنا أوال؟ أم أن : يريده، فابتسم الرجل، وقال له : ح بذلك؟ نظر له الحطاب بتعجب، وقـال وقتك الثمين ال يسم

Page 82: 5472

٨١

أنا صـاحب : وقال. ومن أنت؟ رفع الرجل رأسه في كبرياء الثروات الطائلة التي تمتلكها، أنا صاحب الكنز، الذي عثرت عليه مدفونا، وأبحت لنفسك االستيالء عليه، وغيـر طباعـك

: وأخالقك بعد ذلك تماما، فذهل الحطاب، وتمتم غير مصدق أجل، أنا، لقد أردت ابتالءك واختبـارك، : ب الرجل أنت؟ أجا

بعدما رأيت كرم أخالقك ونبلك وإيثارك غيرك على نفـسك، وطيبة قلبك، ولكنكم فشلت فشال ذريعا، واآلن، بعد أن تحققت من النتيجة، عن طريق العجوز الذي التقيت به منـذ بـضعة

، كان أيام، والذي لم يكن سواي، فإني أريد استرداد حقي منك الحطاب عاجزا عن الرد، نتيجة المفاجـآت المذهلـة التـي تتابعت عليه، ولكنه بالكاد أستطاع أن يتمالك نفـسه، وقـال

ليس معك ما يثبت لي أي شيء ممـا تقـول، ولـن : للرجل: تستطيع أخذ شيء مني، فاتسعت ابتـسامة الرجـل، وقـال

أهكذا؟ أتظن ذلك؟ وفي لمح البصر، وجد الحطاب نفسه فـي مكان آخر تماما، وجد نفسه بغتة، وبال مقدمات فـي الغابـة التي كان يحتطب فيها من قبل، ووجد الكنـز مـدفونا بهـا،

من زرع خيـرا حـصده، : وسمع صوت الرجل يدوي حوله

Page 83: 5472

٨٢

ومن زرع شرا حصده أيضا يا رجل، عليك أن تعـي ذلـك . جيدا، وال تنساه ما حييت

Page 84: 5472

٨٣

صالح وطالح صالح وطالح ، كان يوجد تاجر غنـي معـروف فـي في قديم الزمان

بالده، وكان لديه ولدان أحدهما اسمه صالح، واآلخر اسـمه طالح، كان صالح شابا تقيا أمينا، يساعد كل محتاج، وال يبخل بماله عمن يحتاج المساعدة، أما طالح، فكان علـى عكـسه

ويبخل علـى الفقـراء . شريرا غير أمين، ال يساعد محتاجا بأي مساعدة، ولقد حرص أبوهما على تعليمهمـا والمحتاجين

مهنته، حتى يزاوالها من بعده، ولمـا مـات، وورث ابنـاه تجارته وماله، عمل صالح في التجارة بإتقان وشـرف، أمـا طالح، فكان ال يعرف األمانة والشرف قط، بل وكان يعيـب على صالح أمانته وتصدقه على الفقراء، فكان صـالح يـرد

ما نقصت صدقة من مال، واستمر الحال : لقائلعليه بالقول ا على هذا المنوال، حتى جاء يوم، والتقى صالح فـي طريـق عودته لمنزله بفتاة جميلة رقيقة، ترتدي مالبس قديمة ممزقة، وتجلس على جانب الطريق، تنهمر من عينيها الدموع، فـرق

رة، لحالها، وسألها عما بها، فأخبرته أنها فتاة يتيمة وحيدة فقي قد اشتد بها الفقر حتى لم تعد تجد ما تأكله، فعطـف صـالح عليها كثيرا، وبحث في جيوبه عن نقود يقدمها لها، ولكنه لم

Page 85: 5472

٨٤

يجد، وتذكر أنه ترك نقوده في المنزل، فطلب من الفتـاة أن تأتي معه ليعطيها ما تخفف به من جوعها الشديد، فـشكرته

عه، حتـى إذا مـا الفتاة على كرمه ونبل أخالقه، وسارت م وصال للبيت، تركها ودخل ليحضر لها النقود، وكان طـالح

ه في عجلة من أمره، وهو يدخل غرفته، فتعجب آموجودا، فر وسأله عما به، فأخبره بقصة الفتاة، فاغتاظ منه طالح، وصاح

أيها الغبي، ألن تتوقف عن ذلك أبدا، لقد نصحتك مئـات : بهلنقود بهذه الصورة علـى مـن المرات أن تتوقف عن تبذير ا

يا طالح، أنا لم : يستحق ومن ال يستحق، فأجابه صالح بهدوء أطلب منك قرشا واحدا من مالك، إنني أنفق علـى الفقـراء والمساكين من نقودي أنا، فنظر له طالح بسخط، وقال معـك

أنت وحدك الذي ستتحمل نتيجـة إسـرافك وتبـذيرك، ،حق: بعض النقود، وقدمها لها قـائال وخرج صالح للفتاة ليعطيها

وبالمناسـبة مـا ... أرجو أن تخفف هذه من معاناتك قليال يا اسمك؟ فنظرت إليه الفتاة باسمة، وقالت اسمي نجمة الصباح، األميرة نجمة الصباح، هكذا أسماني والدي السلطان، فـشهق صالح، ونظر للفتاة بذهول وهو ال يعي مـاذا يقـول، وهنـا

تاة بقصتها الحقيقية، وأوضحت له أنها األميرة ابنة أخبرته الف

Page 86: 5472

٨٥

السلطان، ورغبت في الظهور بمظهر الفتاة البسيطة الفقيـرة لتعرف الصادق من الكاذب فيمن تقـابلهم وتتعامـل معهـم، وقالت له إنها بعد استماعها للحوار بينه وبين أخيـه وجـدت

ن ينـال فيهما نموذجين متناقضين تماما، وأن كليهما ال بـد أ جزاءه العادل، ثم لم تلبث أن ودعته ورحلت عائدة لقصرها، ولم تمض بضعة أيام حتى جاء لصالح رجل أخبره أنه رسول السلطان، وأنه يدعوه للقائه، وذهـب صـالح معـه، وقابـل السلطان، الذي رحب به ترحيبا حارا، وأجلسه بجواره، وقال

معها، وأنـه إنـسان له إن ابنته األميرة أخبرته بكل ما فعلته إنني لم أجـد : غاية في الطيبة والنبل والكرم، وقال له أيضا

خيرا من ابنتي ألعطيها لك مكافأة على كرم أخالقك، ولـذا، فلسوف تكون منذ اليوم، ابنـي وزوج وحيـدتي، وأقيمـت األفراح والليالي المالح، وتزوج صالح من األميرة، وعاشـا

دائم، أما طـالح، فلقـد بـارت معا في سعادة وهناء وفرح تجارته، بعد أن هجره زبائنه لعدم أمانته وغشه الدائم لهـم، فعاش فقيرا ال يكاد يملك شيئا، وهكذا، وكما قالـت األميـرة نجمة الصباح، نال كل من األخوين صالح وطـالح جـزاءه

. العادل الذي يستحقه عن جدارة

Page 87: 5472

٨٦

األخوان األخوان وفي بالد لم يعـد لهـا كان يا ما كان في قديم الزمان،

وجود اآلن، كان يعيش ملك عظيم الشأن، حكيم واسع الثراء يحسن حكم شعبه، وكان له مـن األبنـاء أميـرين، صـالح وصالح، وحينما بدأت هذه القصة كانا صغيرين، فقـد كـان صالح في الرابعة من عمره، وصالح فـي الثالثـة، وكـان

ل أمير يولد عالمة الملوك في تلك البلدة يرسمون على كتف ك مميزة يعرفونهم بها ويميزونهم، ولم يكن هذا األمر معروفـا لدى أهل البلدة المجاورة، فقد حرص ملوك هذه البلدة علـى االحتفاظ بهذا األمر سرا في حدود بلـدهم، لتكـون أفـضل طريقة يكشفون بها عن أي جاسوس ينتحل شخصية أي أمير

ه هذا الملـك مـع ولديـه يؤسر أو يخطف، وكان هذا ما فعل األميرين عند والدتهما، وكان لهذه البلدة أعداء هم أهل البلدة المجاورة لها، وكانت الحرب مستمرة دائما بينهمـا، وكـان الملك يعلم علم اليقين أن الحرب لن تنتهي بسهولة مع أعدائه هؤالء، وأنها ستستمر زمنا طويال، ربما يمتد لعهـد ولديـه،

أن تتفتح أسماعهما وأبصارهما على صليل السيوف ولذا أراد وغبار المعارك وصـباح الجنـد، ولـذلك حـرص علـى

Page 88: 5472

٨٧

معه وهما بعد صغيرين في هذه السن المبكـرة اصطحابهماجدا، إلى أي معركة، يخوضها مع أعدائه، وكـان يجعلهمـا يراقبان سير المعركة من فوق قمة جبل مرتفع يطل بوضوح بالغ على ساحة المعركة التي اعتاد الجيشان التالقـي فيهـا، خوفا عليهما من سهم أو رمح قد يعرف طريقه إليهما، وكان مع كل أمير منهما حارس خاص يرعاه ويحميه ويهـتم بـه، وتكرر ذلك عدة مرات، وفي إحدى المعارك، اشتدت شراسة األعداء، وهجموا هجوما مفاجئا عنيفا شـديدا علـى جـيش الملك، فاستبد الرعب والخوف بحارس األمير صالح بـشدة، فابتعد مختفيا خلف بعض الـصخور تاركـا وراءه األميـر

غير، ولم يكن ذلك عن خيانة، وإنما عن تأثير هلع سيطر الصعليه فأعجز عقله عن حسن التفكير والتدبير، وعن جبن لـم يستطيع معه ثباتا في وجه العدو وحماية األمير كمـا ينبغـي عليه، ووجد الطفل نفسه وحيدا، فسرعان ما سار بعيدا عـن

الكـل الجيش دون أن يالحظه أحد لصغر حجمه وانـشغال بالمعركة، وظل يسير حتى ضل الطريق كلية، كأي طفل في مثل سنه الصغيرة تلك، وصادف أنه كان على مقربة من هذا المكان راعي غنم من األعداء يرعى بعض األغنام، فلم يلبث

Page 89: 5472

٨٨

أن رأى الطفل الصغير، يتلفت حوله حائرا مرتبكـا خائفـا، يهم، لكن الـصغير فحاول أن يستفهم منه عن أهله، ليوصله إل

عجز تماما عن إفهامه بحقيقة أصله، وربما كان ذلـك مـن حظه الحسن، فلو علم الراعي أن هذا الطفل أمير من البلـدة المعادية، فربما كان قد قتله، وقدم جثته لقصر الحاكم، ونـال عن ذلك مكافأة سخية، ولكن ما حدث كان غير ذلك تمامـا،

من األبناء هو وزوجته، فلم يرزقا فهذا الراعي كان محروما أطفاال، ولطالما تمنيا أن يكون لديهما طفل جميل يمأل حياتهما بهجة وسعادة، فشعر بميل لهذا الصغير، ورغب في تبنيـه، فاصطحبه معه لبيته، وفوجئت زوجته به يدخل عليها وفي يده طفل غريب، لم تره من قبل، فسألته عنه، فلما علمت بقـصة

زوجها عليه، رحبت به ترحيبا حارا، وأعدت له مكانا عثورمناسبا، ولكن الراعي احتفظ بشيء عثر عليه مـع الطفـل، وكان قالدة ذهبية، أعطاه إياها والده الملـك، وأهـدى أخـاه صالح نسخة طبق األصل منها، وعندما اكتشف الملـك بعـد

ثيل لهما، انتهاء المعركة اختفاء ابنه، شعر بغضب وحزن ال م دفعاه لقتل حارسه الذي أهمل في حراسـته، ومـضى يبـذل قصارى جهده في البحث عنه، دونما جدوى، فاشـتد عليـه

Page 90: 5472

٨٩

الحزن حتى كاد أن يقضي عليه، ولكنه نجح في أن يقاومـه ويتغلب عليه بأعجوبة، وسلم أمره هللا عز وجـل فـي ابنـه

يكـون األصغر، ومضى يرعى ابنه األكبر ويربيه ويعده ألن خليفته على عرش البالد، ومرت السنون، وكبـر األميـران،

حدهما في بيت السلطنة، واآلخر في بيت راعي غنم فقيـر أبسيط، فأما األول، فقد تولى الملك بعد وفاة أبيه، وأما الثاني، فقد أكسبته حياته هذه قوة وبأسا وشجاعة أهلته للعمـل فـي

الجيشان العدوان للتالقي الجيش، وجاء الوقت الذي استعد فيه في أول معركة بعد تولي الملك الجديد قيادة الجـيش، ودارت المعركة ضارية حامية الوطيس، وانتهـت بانتـصار الملـك الجديد على أعدائه، وأسره كثيرا من جندهم، وكان بينهم، ويا للعجب، أخوه صالح، ودون أن يعلم أحدهما شيئا عن اآلخر

ده بقتل األسرى كلهم، وبعد تنفيذ األمر، جـاء أمر الملك جنو تم تنفيذ األمر موالي، ولقد عثرت : وقال له ،ليهإحد الجنود أ

مع أحد القتلى على هذه، وقدم له القالدة الذهبيـة، واتـسعت عينا الملك في ذهول عارم، لقد كانت نسخة مماثلـة تمامـا

همـا مـا لقالدته هو، وفي الحقيقة، كان األميران يعرف كال حدث لألمير صالح من وجهة نظر ومعرفة المحيطين بـه،

Page 91: 5472

٩٠

فأما األمير صالح، فقد سمع بقصة اختفاء أخيه من والده قبل وفاته، وأخبره عن القالدتين الذهبيتين المتطابقتين تماما اللتين أهدى كل واحدة منهما لواحد مـن ولديـه، وأوصـاه أبـوه

ع، رغم أن أمله كان بضرورة البحث عن أخيه بكل ما يستطي ضعيفا للغاية في أن يحقق ابنه ما لم يحققه هو، ولـم يكـن صالح بحاجة إلى توصية، فقد بذل كل ما في وسعه من جهد، في البحث والسؤال، وباءت جهوده بالفشل كأبيه، أما األميـر صالح، فكان يعلم أنه طفل عثر عليه راع فقير بسيط مفتقـد

هو، وقد سلمه القالدة التي عثر عليها معه، األبناء، وليس ابنه وأخبره أنه طالما حاول معرفة أصله، ولم يقصر فـي هـذا الشأن، ولكن جهوده كانت عديمة الفائدة، فعزم أن يبقيه عنده كابنه، ولكن على أن يذكر له الحقيقة قبيل وفاتـه، وفـوجئ الشاب وصدم بهذه الحقيقة التي لم يتخيلها ولم تخطـر علـى

اله طيلة حياته، وبعد الصدمة األولى اتخـذ قـراره، ببـذل بالمزيد من الجهد والمحاوالت لمعرفة أصله، ولكنها ضـاعت هباء كغيرها من المحاوالت السابقة، وانتاب الـشاب اليـأس والحزن الشديد، ثم لم يلبث أن رأى أن أفضل ما يفعله هـو

بحياته وعمله نسيان ما سمعه من أبيه بالتبني تماما، وليستمتع

Page 92: 5472

٩١

بالجيش، وإن ظل يرتدي قالدته الذهبية بشكل دائم فـي كـل مكان، حتى كانت معركته األخيرة هذه، ونعود ثانية لألميـر، أو باألحرى الملك صالح، وقد أستعاد في ذاكرته كل ما قالـه له والده قبيل وفاته، ومن العبث محاولة وصف مشاعره، التي

ن ذهـول، وفـرح، وارتيـاع، جمعت، في لحظة واحدة، بي ولوعة، وتجمد في مكانه لحظة، ثم هرع إلى حيث القتلـى، وتبعه الحارس الذي سلمه القالدة الذهبيـة، وعنـدما وصـل الملك التفت إليه وسأله بأسى لم ولن يشعر به من قبل أو من

أين جثة صاحب هذه القالدة الذهبية، أشـار الحـارس : بعدلملك، وكشف عنها ثيابهـا عنـد موضـع إليها، فاندفع إليها ا

الكتف، ثم دوت صرخة من أعماقه تحمل أقصى معاني اليأس واأللم الهائلين، تحمل اسم أخيه، الذي مات بـأمره، وانهـار الملك، ودفن رأسه في صدر جثة أخيـه، وأغرقهـا بأنهـار

. دموعه التي لن تجف ما دام في صدره نفس يتردد

Page 93: 5472

٩٢

خلق خلق جمال الخلق وجمال الجمال الخلق وجمال الفي قديم الزمان، كانت توجد مملكة جميلـة، مزدهـرة، عامرة بالخيرات من كل األصناف، وعلى كل األشكال، وكان السبب الرئيسي لهذا هو ملكها الشاب، الـذي كـان متمتعـا بالثراء الواسع والوسامة والذكاء المتوقد، والذي أدى اهتمامه

بشدة لدى رعيتـه، لى ازدهارها وجمالها، وكان محبوبا إبها ولما كان ليس متزوجا، فقد كان حلم كل فتاة بالمدينـة بـال استثناء أن تتزوجه، وتصبح ملكة المملكة، وكانت في المدينة فتاة ال تتمتع بأي قدر من الجمال، فلقد كانت سوداء البـشرة، مجعدة الشعر، ضيقة العينين، معقوفة األنف، واسـعة الفـم،

مثار سخرية واستهزاء فتيات المملكـة قصيرة العنق، وكانت الجميالت، وكان الجميع ال يشك لحظة أن أحدا لن يفكر قـط في االقتران بها، ولكنها، على الرغم من قبح خلقها، فقد كانت جميلة الخلق، حيث كانت متواضعة ال تؤذي أحدا ال بـالقول وال بالفعل رغم ما تتعرض له هي، وكريمة تساعد كل مـن

اج للمساعدة، ولكن ظل الجميع ينـسون كـل هـذا، وال يحتيتذكرون سوى قبحها، وفي يوم، صحا أهل المملكـة علـى صوت لمناد يطوف الطرقات معلنا أن الملك الشاب يرغـب

Page 94: 5472

٩٣

في االقتران بأجمل فتيات مملكتـه علـى اإلطـالق، وأنـه سيطوف في المملكة ويمر عليها بيتا بيتا ليرى فتياته ويختار

هن، لتكون صاحبة الحـظ الـسعيد فـي الـزواج منـه أجملومشاركته في عرش المملكة، وراحت كل الفتيات يتفنن فـي تزيين أنفسهن وارتداء أندر مجوهراتهن، والتعطـر بـأثمن وأزكى العطور الموجودة لديهن، وخرج الملك الشاب علـى حصانه األبيض الجميل، وراح يمشي في موكبـه الملكـي،

نزل، فيطرق بابه ويستأذن أصحابه ويدخل، ويقف على كل م ورأى عشرات الفاتنات في عشرات البيوت، ولكنه كان يغادر كل منزل غير راض بأية فتاة من الموجودات به، حتى وصل لمنزل الفتاة القبيحة في خلقها، الجميلة في خلقها، وكان رجاله

ا أي قد تعجبوا لرفض مليكهم كل هؤالء الجميالت، وتـساءلو جمال يريد أكثر من ذلك، فلما وصل الموكب لمنـزل هـذه الفتاة، نصحوا الملك بأال يضيع الوقت فـي هـذا المنـزل، وأفهموه أن الفتاة الوحيدة الموجودة هنا هي أقبح فتـاة فـي المدينة كلها، بيد أن الملك صمم على دخول البيـت ورؤيـة

اة نفسها لـديها الفتاة مثلما رأى غيرها كثيرات، ولم تكن الفت ذرة من األمل في اختيار الملك لها، ولذا لم تبذل أي جهد ولو

Page 95: 5472

٩٤

بسيط في تزيين نفسها، ودخل الملك، وجلس مع الفتاة قلـيال وتحدث معها، ثم ما لبث أن همس لوزيره أن يتبعه، ووقفـا معا على مبعدة من الفتاة قليال، ومال الملك على أذن وزيـره

اسمع، هذه الفتاة هي طلبي، والـشرط :قائال، بصوت خافت الذي أريده متوفر فيها، فكاد الوزير أن يطلق صيحة تعجـب ودهشة بالغة، إذ كيف يعلن الملك أنه يرغـب فـي الـزواج بأجمل فتيات مملكته، ثم يعرض عن كل فتاة جميلة يراهـا، ويختار أقبح فتيات مملكته، والتي ال تتميز بـأي قـدر مـن

ن ما يريده متـوفر بهـا؟ إنها طلبه، و إنها الجمال، ليقول ع كيف؟ وكتم الوزير صيحته في آخر لحظة، ومال على الملك

باهللا عليك يا موالي، أال أفهمتني ما تعنيـه؟ كيـف : وقال له : تكون أقبح فتيات المملكة، هي أجملهن؟ فابتسم الملك، وأجابه

هل ظننت عندما قلت أجمل فتيـات المملكـة، أننـي أعنـي هن خلقا؟ كال يا وزيري العزيز، تخطئ كثيرا لو ظننـت أجمل

ن ما أعنيه هو أجمل فتيـات مملكتـي خلقـا؟ فـردد إذلك، أجل يا وزيـري، خلقـا، فمـاذا : خلقا؟ أجابه الملك : الوزير

سأستفيد من جمال الوجه، لو لم يكن هناك جمـال الـروح؟ فهذه الفتـاة، وهناك أمر آخر، : ثم أكمل ،وصمت الملك قليال

Page 96: 5472

٩٥

من السهل أن تصبح أجمل الفتيات، خلقا وخلقا معـا، فـسأله هذا أمـر : كيف؟ كيف؟ أجابه الملك : الوزير في حيرة بالغة

بسيط، لقد أحضرت معي تركيبة سحرية من ساحر المملكـة العظيم، وسوف أسقي الفتاة منها، وسترى النتيجـة بعينيـك

اول كوبا صغيرا، وأخرج من وتحكم بنفسك، وتقدم الملك، وتن جيبه زجاجة بها سائل وردي المع، وصب بضع قطرات من الزجاجة في الكوب، وقدمه للفتاة، التي ترددت لحظة، وانتابها الخوف من هذا السائل الغريب الذي ال تعرف عنه شيئا، غير

نها وأكد لها أنه ليس مـشروبا ضـارا علـى أأن الملك طم ن اسـتقر فـي إأن تشربه، ففعلت، ومـا اإلطالق، ورجاها

جوفها، حتى أصبحت أمام الملك ووزيـره، وبقيـة رجالـه، حورية يغار القمر من جمالها، والنسيم من رقتها، والغـزال من رشاقتها، إذ أصبح شعرها ذهبيا المعـا ناعمـا طـويال، مسترسال على ظهرها وكتفيها، وعيناهـا واسـعتين بلـون

غيرا مستقيما، وبشرتها الـسمراء الداكنـة السماء، وأنفها ص أصبحت بيضاء بياضا ناصعا، وقدها ممـشوقا، وصـدرها ناهدا، وزفت هذه الغادة الحسناء إلى ملك المملكة، وأصبحت ملكة لها، وحدث وال حرج عن االحتفاالت التي أقيمت فـي

Page 97: 5472

٩٦

زفاف الملك والفتاة، فقد عاشت المملكة أياما وشـهورا كمـا لم الجميل، الزينات في كل مكان، في كل حانة، وطريـق، الح

ومنزل وبناء، والهدايا والهبات تنثر نثرا، واألغاني تـصدح في كل بقعة، والناس ال يكادون يأكلون أو يـشربون إال فـي

نما العرس عرسهم جميعا، ولكن المهـم أقصر الملك، حتى لك ج أجمل فتيـات في النهاية أن الملك وفى بما قاله حقا، وتزو

مملكته، ولكنها ليست جميلة الخلق فحسب، وإنما جمعت بين هذا الجمال، وبين جمال الخلق، فأصبحت جميلة الجمـيالت،

. خلقا وخلقا

Page 98: 5472

٩٧

القسم الثالث القسم الثالث

خيال علميخيال علمي

Page 99: 5472

٩٨

الصراع على القمر الصراع على القمر اسمع يا رئيس : ، وهو يقول ٤٠٠احتقن وجه رئيس باخ

لم يحاول أي شخص، سواء من ٢٠٧٠عام ، منذ ٩٠٠زوس دولتينا أو من أية دولة أخرى على سـطح األرض، احـتالل

على سطح القمر، وتم االتفاق على تركها ٥٠٠منطقة عاين نك ستقوم أمنطقة محايدة، ولن تأتي أنت اآلن فجأة هكذا لتعلن

. باحتاللها واالستيالء عليهاعبر الالسلكي والذي يحدثه – ٩٠٠أجابه رئيس زوس

المجسم، الذي يسمح بتجسيم صورة كل منهمـا فـي مكتـب إنني ال أتصل بك الستئذانك يا رئـيس : ببرود بالغ –اآلخر

، وإنما إلبالغك، فقواتنا اآلن على مشارف منطقـة ٤٠٠باخ . بالفعل٥٠٠عاين

بأي حق؟ مـن الـذي : في حدة ٤٠٠صاح رئيس باخ بسخرية ٩٠٠م رئيس زوس منحكم حق االستيالء عليها؟ ابتس

.يمكننا أن نثبت بشكل ما أننا نستحقها: وهو يقول

Page 100: 5472

٩٩

كان المعنى المقصود واضحا، فازداد احتقان وجه رئيس ليكن يا رئـيس زوس : وتضاعف، وهو يقول بتحد ٤٠٠باخ . ، نحن لن نجبن أمامكم، وسنقاومكم حتى آخر رمق٩٠٠

نكم يمك: ضحكة ساخرة، وقال ٩٠٠أطلق رئيس زوس المحاولة على األقل، وراحت صورته تتالشى بـبطء حتـى

. اختفت تماما في غيظ يا لك من وقـح ٤٠٠وعندئذ هتف رئيس باخ

لعين حقير، ونهض من خلف مكتبه يسير في الحجرة بقلـق، وما العمل؟ ال يمكن أن نسمح لهـؤالء األوغـاد : وهو يقول

لون منها على باالستيالء على هذه المنطقة بالذات، فسوف يدخ المناطق التابعة لنا هناك بالتأكيد، ال بد إذن من محاربتهم فعال

وضغط جرسا فـي مكتبـه اسـتدعى بـه . حتى آخر رمق وأصدر أوامره بإطالق القوات كلها بكـل عتادهـا ،مساعده

بالذات، وبـدأت ٥٠٠وأسلحتها إلى القمر، وإلى منطقة عاين ت فيها شتى أنواع أعنف حرب شهدها سطح القمر، واستخدم

األسلحة الرهيبة، وانتهت بعد كفاح مريـر بانتـصار زوس ، وكانت صدمة األخيرة هائلة، وال سيما ٤٠٠ على باخ ٩٠٠

رئيسها، الذي تميز غيظا في البداية، ثم لم يلبـث أن امـتأل

Page 101: 5472

١٠٠

إصرارا وتصميما رغم ما حدث، وأرسل بعض رجاله إلـى لذي عينه رئـيس زوس ، لمالقاة رئيسها ا ٥٠٠المنطقة عاين

، وتظاهر هؤالء بتقبل الهزيمـة بـصدر رحـب، وأن ٩٠٠دولتيهما أختان وصديقتان في النهاية مهما حدث بينهما، كـل هذا في البداية، ولكن عندما انصرفوا، كانوا يبتـسمون فـي

نفـسه، ٥٠٠ظفر بعد أن نجحوا في استمالة رئـيس عـاين ار يتخذه، ولن يكون وضمنوا أنهم سيعلمون أوال فأول بأي قر

هناك أي قرار يضر بدولتهم تحت جميع الظروف، وهنا بقي ؟ ٥٠٠من الذي نجح في االستيالء على منطقة عاين : السؤال . ؟ وبقي بال إجابة٤٠٠ أم باخ ٩٠٠زوس

Page 102: 5472

١٠١

آلة الزمن آلة الزمن انخرط الجميع في البكاء، وانهمرت الدموع من المـآقي

زنا على السيدة الطيبـة جالل، العالم الشهير، ح . في منزل د والدته ووالدة أخته سهام، التي عاشت الفترة األخيـرة مـن حياتها متنقلة بين منزلي ابنها وابنتها، نتيجة عجزهـا عـن الحياة بمفردها بعد وفاة زوجها منذ بضعة سـنوات، وزواج ولديها، ولكن العناية التي لقيتها في منـزل ابنهـا أو منـزل

ير عامل السن المتقدم في إصابتها بالعديـد ابنتها، لم تمنع تأث من األمراض، حتى توفيت بسبب تمكن أحد هذا األمـراض منها، وكان أكثر الجميع انهيارا هي سهام ابنتها، التي كانـت شديدة التعلق بأمها، فلم يكد يبلغها خبر وفاتهـا فـي منـزل أخيها، حتى انتابتها موجة عنيفة من الحزن والبكاء والتشنج،

جالل باإلشفاق على أخته مـن . وبعد الدفن والجنازة، شعر د حالتها هذه، فراح يعمل جاهدا على تهدئتها، فقالت لـه مـن

ال أكاد أصدق أنها رحلت عني هكذا فجـأة، : خالل دموعها نها صدمة أعجز عن تحملها، آه، كلما أتـذكر تلـك األيـام إ

نزلـي، كـم الجميلة، التي كنا نقضيها معا عندما تكون في م

Page 103: 5472

١٠٢

أتمنى لو عادت تلك األيام، كم أتمنى لو عادت لي أمي مـرة .. وكانت هذه البداية. أخرى

كانت الجملة التي نطقتها سهام، معبرة عن حزنها الكبير . لوفاة أمها هي الناقوس السحري، الذي دق في رأس أخيها د

!!. جاللن من نعم، ولم ال، لم يحدث هذا فعال؟ لماذا ال يعيد الزم ! جديد؟ لماذا ال يخترع اآللة التي تحقق هذا؟ آلة الزمن؟

جالل يكاد يفارق معملـه، .ولعام كامل بعدها، لم يكن د واستمر يجري أبحاثه وتجاربه بال توقـف وبمنتهـى الدقـة واالهتمام والتركيز، وبعد سنة كاملة، رفع سـماعة الهـاتف

ال لها عبر الملحق بمعمله الخاص، وطلب رقم أخته سهام، وق ا. الهاتف جملة واحدسهام، احضري لمنزلي فور!

وأنهى المحادثة تاركا إياها مبهوتة وال تفهم شيئا، ولكن لهجته دفعتها لإلسراع بارتداء ثيابها والـذهاب فـي الحـال لمنزله كما طلب، وهناك استقبلتها الخادمة فاطمـة، وقادتهـا

لى وجهه أبلغ آيـات للمعمل حيث وجدت أخاها بانتظارها وع أحسنت بوصولك بهذه الـسرعة، : الفرح واالبتهاج، وقال لها

. إنني أنتظرك على أحر من الجمر، انظري

Page 104: 5472

١٠٣

ورفع أمام عينيها جهازا صغيرا به العديد من األزرار، بدا لها أقرب للريموت كنترول، وإن تدلى منه حزام كبيـر،

هذا : اس وسعادة فنظرت إليه بحيرة وتساؤل، فقال لها في حم رددت وراءه ! ثمار عملي وكفاحي لعام كامل، آلـة الـزمن

! آلة الزمن؟: االسم بدهشة بالغةنعم أختي الحبيبة، آلة الزمن، إنه جهاز بـسيط : أجابها

وصغير كما ترين، ولكن فائدته أعظم مما تتخيلين أو يتخيـل لـى إأحد، إن األزرار التي به تنقل من يرتديه حول وسـطه

ماضي أو المستقبل كيفما شاء، وبمـدى يتحـدد بالـسنوات الواألشهر واأليام والساعات والدقائق والثواني، إنني لم أجربه بعد، وسوف أجعلك تقومين بالتجربة األولى بنفـسك، ألنـك صاحبة الفضل األول في خروج هذا الجهـاز العظـيم إلـى

. الوجودترعتـه؟ أنا؟ كيف؟ ألست أنت الذي اخ : قالت باستغراب

ال تتذكرين أولكنك من أوحى لي بفكرة اختراعه، : قال باسما كم أتمنى لو عادت تلك األيام : عندما قلت لي يوم وفاة والدتنا

الجميلة التي كنا نقضيها معا عندما تكون في منزلـي، كـم أتمنى لو عادت لي أمي مرة أخـرى؟ لمعـت عينـا سـهام

Page 105: 5472

١٠٤

جـالل . قال د . ذكرأجل، أ : بالدموع، وقالت في أسى وحزن . الفرصة أمامك اآلن لتحقيق أمنيتك بمنتهى البساطة : بسرعة

نعم، أعني : هل تعني؟ قاطعها : التفتت إليه بلهفة شديدة وقالت أن ترتدي الجهاز، وتضبطيه في الماضي، قبل أسبوع واحـد من وفاتها، لقد كنت قد أتيت بها إلى المعمل هنا للترفيه عنها

انحدرت دمعة من . شيء وإشعارها بالتغيير وتسليتها بعض ال عيني سهام، وأسرعت ترتدي الجهاز وتضبطه بمساعدة أخيها على اليوم المطلوب، وانتظرت لحظـة، ثـم أطلقـت بغتـة

أمي، واندفعت ناحية الكرسي في أحـد األركـان، : صرخةوألقت نفسها بين ذراعي أمها، التي ال يراها سواها، واندفعت

جـالل . عينيها غزيرة هذه المرة، وابتسم د دموع الفرح من بحنان وسعادة، واستغرق في تأمل أخته، ولم يفق إلى علـى

: طرقات ترتفع على باب معمله الملحق بشقته فقال دون وعي ادخلي، ولم يكد ينطقها، حتى انتبه لخطئه الفـادح، فالتفـت مذعورا إلى الباب، ولكن بعد فوات األوان فقد فتح الباب في

ذه اللحظة، ودخلت فاطمة الخادمة، وهـي تحمـل ورقـة هنها إبرقية من الهانم يا دكتور، تقول : صغيرة في يديها وقالت

Page 106: 5472

١٠٥

، واتسعت عيناهـا فـي ذهـول ...ستعود والصغار قريبا و !! عنيف

فقد وقع بصرها على سهام وهي تحتضن أمها التـي ال . ك د تراها هي، وتحدثها، فاتسعت عيناها أكثر وأكثـر، وأدر

جالل السبب، وزاد اضطرابه وتوتره، وحـاول أن يـشرح ويوضح لها األمر، ولكن الخادمة لم تستمع إليه، فقد انـدفعت

لقد جنت، لقـد جنـت، : مغادرة المعمل وهي تجري وتصيح لى الهاتف الموضوع في ردهة المنـزل، وأدارت إوأسرعت

تـى رقما، ولم تكد تسمع من يجيبها على الطرف اآلخـر ح آلو، مستشفى األمراض العقلية؟ لدينا هنا مريـضة : صاحت

... تحتاج لالنتقال عندكم فورا، العنوان؟ إنهجالل جاهـدا إقنـاع . ومضت لحظات، حاول خاللها د

أخته بالتخلي عن الجهاز، ولكن عبثا، لقد تجاهلتـه تمامـا، وتشبثت أكثر بالجهاز، واستمرت فـي حـديثها مـع أمهـا

لها، وفي اللحظة التي بلغ فيها مبلغ اليأس، ولـم واحتضانهايعد يدري ماذا يفعل، اندفع رجال اإلسعاف التابعين لمستشفى

. األمراض العقلية للمعمل تقودهم الخادمة، وهنا لـم يجـد د جالل بدا، فانقض على أخته وانتزع آلة الزمن مـن حـول

Page 107: 5472

١٠٦

وسطها بالقوة، فتجمدت لحظة، ثم راحت تتلفت حولهـا فـي أمي، أين أمي؟ أين أمي؟ وانقض رجال : هستيريا، وهي تردد

جـالل فـي . اإلسعاف عليها، وحملوها لسيارتهم، تاركين د حالة ذهول، وهو ال يكاد يصدق ما حدث أمامه وما تـسبب فيه ألخته، ولكن الذي كان من العسير عليه حقا أن يـصدقه،

، آلـة أو حتى يتخيله، أن كل هذا الذي حدث كان بسبب آلـة !!! الزمن

م م ١٩٩٥١٩٩٥/ / ٨٨/ / ٢٣٢٣

Page 108: 5472

١٠٧

العاصفة والرومانسية العاصفة والرومانسية ارتفع رنين جرس المنبه الصغير، في حجرة المهنـدس طارق، معلنا تمام السابعة صباحا، فامتدت يد طارق بتكاسـل

قبل أن يزفر في ضيق ، ثم لم يلبث أن تثاءب ،ليوقف الرنين ج، حينما وصل إلى سمعه صوت المطر الغزير فـي الخـار

. يوم شتوي آخر ثقيل، أضطر فيه لالستيقاظ مبكـرا : وغمغموالخروج في جو قارس البرودة، رباه، كم أكره مثـل هـذا

. الجوونهض متكاسال، وأزاح الغطاء الثقيل جانبـا، وأعـاد الرواية الرومانسية التي كان يقرأ فيها ليلة أمس قبل استغراقه

لتي تعلو سـريره، قبـل أن في النوم إلى مكانها في المكتبة ا يغادر حجرة نومه، ويغتسل، ثم يتجه إلى المطـبخ إلعـداد إفطاره، فقد كان يعيش وحيدا، ويعتمد على نفسه فـي كـل

. أموره الخاصةوبعد تناول إفطاره، وقراءة جريدة الصباح، غادر طارق

يلته بمدينة المهندسين، متدثرا بالثيـاب الـصوفية الثقيلـة، ڤظلته ليتقي بها األمطـار الغزيـرة المنهمـرة فـي وحامال م

Page 109: 5472

١٠٨

الخارج، في المسافة بين باب الفيال وسـيارته، وكـذا فـي المسافة بين سيارته وباب شركة اإللكترونيات الكبرى التـي يعمل بها، والتي وصلها في تمام التاسعة كعادتـه، وأوقـف سيارته في المكان المخصص لسيارات العـاملين بالـشركة،

ا متجها لمكتبه في الشركة، وهناك اسـتقبله زميلـه وغادرهأهـال بالرجـل : وصديقه المهندس محمود ضاحكا، وقـائال

يبدو أن هناك مؤامرة جوية ضدك، أسبوع كامل لـم . الحار . تنقطع فيه األمطار تقريبا، مسكين، إنني أرثي لحالك

ظهر الضيق والعبوس على مالمح طارق، وهو يتجـه الحجرة التي يشترك فيها مع محمود، ويجلس خلفه لمكتبه في

قائال بحدة، محمود، ليست لدى أية رغبة في المـزاح هـذا . الصباح

بالطبع، هذا مفهوم، كل : ضحك محمود مرة أخرى وقال من في الشركة يعلمون أن هناك شيئين تحمل لهمـا مـشاعر

تقـد متناقضة تماما، الجو البارد، والرومانـسية، األول ال أع أنني قابلت شخصا من قبل يكرهه مثلما تكرهه أنـت، ومـن الطبيعي أن يكون سببا لتعكر مزاجك بشدة وعدم تقبلـك ألي

أمـا . مزاج، في الفترة التي تجبـر خاللهـا علـى تحملـه

Page 110: 5472

١٠٩

الرومانسية فأنت تعشقها بجنون أدى بك إلى فـشل مـشروع خطبتك وزواجك أكثر من مرة، حتى كاد عمـرك يتخطـى األربعين وأنت ال تزال عزبا، لم تتزوج بعد، إننا لـم نطلـق

هز طـارق ،عليك لقب الرجل الحار أو الرومانسي من فراغ كتفيه بال مباالة، والتقط بعض األوراق الخاصة بالعمل وأخذ

فلتطلقوا علي ما شئتم من ألقاب، هذا ال : يراجعها، وهو يقول ومانسيتي التـي تـسخرون يعنيني كثيرا، فأنا مقتنع تماما بر

منها، ومسألة تأخر زواجي بسببها، أو بسبب أنني لـم ألتـق حتى اآلن بمن تتمتع بها، في هذا العصر المادي، هذا األمـر ال يقلقني، فأنا لم أصبح عجوزا بعد، وهناك رجال تزوجـوا وأنجبوا في سن أكبر مني، وأنا أثق أن من تتفق معـي فـي

لم يأت أوان التقائنا بعد، إال أنـه رومانسيتي موجودة، ولكن . بالتأكيد سيأتي يوما بإذن اهللا، ويحمل السعادة لكلينا

لست أدري مـا : هز محمود رأسه بدهشة وتعجب وقال الذي دفعك للتخصص في النواحي العلميـة، ودخـول كليـة الهندسة، كان ينبغي لمن له مثل شخصيتك أن يكون أديبـا أو

كانت هـذه : فتيه، وهز رأسه وهو يقول مط طارق ش . شاعرارغبة والدي رحمه اهللا، ولم أشأ تخييب أمله فـي، وصـمت

Page 111: 5472

١١٠

ولكن هذا ال يمنع من أن لي محاوالت فعال : قليال، ثم أردف . في الكتابة األدبية والشعرية

ومـاذا عـن كراهيتـك لألجـواء : قال محمود ضاحكا الباردة؟

أنهـا تتفـق مـع أتعتقد : صمت طارق لحظة، ثم أجاب الرومانسية ودفء المشاعر؟ حدق فيه محمود بدهـشة، ثـم ضرب كفيه ببعضهما بمنتهى التعجب واالستغراب، قبـل أن يهز رأسه ويعود لما كان بيده من أوراق قبل دخول طـارق، وكأنما قرر إراحة ذهنه من مناقشة هذا األخيـر واالسـتماع

. موضوعآلرائه وأفكاره العجيبة خاصة في هذا الومضى اليوم، وكالهما منهمك في عمله، ويتبادالن بين الحين واآلخر بعض األحاديث حول العمـل أو غيـره مـن األمور العامة، ولم يتبادال كلمة أخرى حول نفس الموضـوع مرة أخرى، حتى انتهى يوم العمل، وحان وقت االنـصراف

واحد من الشركة، فافترقا عند موقف السيارات حيث اتجه كل واتجه لمنزله تحت األمطار التي لم تتوقف ،لى سيارته إمنهما

بعد، ووصل طارق إلى بيته مرهقا بعد يوم العمل الطويـل، فاتجه لحجرته وخلع سترته وحذاءه المبتل، وألقى جسده على

Page 112: 5472

١١١

الفراش، وبقي للحظات في حالة ما بين النوم واليقظة، قبل أن ثم يذهب إلى المطبخ ليعد لنفسه ينهض متثاقال، ويغير ثيابه،

وجبة ساخنة، ومشروبا دافئا، واتجه إلى حجرة المعيشة حيث التلفاز، وجلس يستعرض برامجه ويقلب قنواته، وهو يتنـاول طعامه، وانتهى منه، ثم أمسك كوب المشروب الساخن وأخذ

. يرتشف منه ببطء واستمتاعز، وقام ببعض وحوالي التاسعة نهض طارق، فأطفأ التلفا

أعمال التنظيف والترتيب السريعة البسيطة في الفيال، ثم اتجه لحجرة نومه، وانتقى إحدى الروايات الرومانسية التي يعشقها، وتمدد في فراشه بعد أن ضبط المنبه الصغير بجواره، وفـتح

. صفحات الرواية وانهمك في قراءتها باستغراق شديد الخارجي للفيال، فانتفض وفجأة ارتفع رنين جرس الباب

طارق، ونظر إلى ساعة الحائط التي أشارت عقاربهـا إلـى ترى من يطرق الباب في : الحادية عشرة، فتساءل بقلق شديد

مثل هذه الساعة؟ ومثل هذا الجو؟

وضع الرواية التي في يده جانبا ونهض يحكـم ربـاط الفـيال معطفه المنزلي الثقيل، ويحمل مظلته، ثم اتجه لبـاب

Page 113: 5472

١١٢

الداخلي ففتحه، ونظر عبر الحديقة إلـى البـاب الخـارجي لكن الظالم الشديد وكثافـة األمطـار . محاوال تبين الطارق

منعاه، فرفع صوته مناديا، من بالباب؟ أدهشه أن وصل إلـى أمكنه تميزه بصعوبة يـستغيث ،مسامعه صوت أنثوي رقيق

قلبية مفاجئة تحتاج النجدة، يبدو أن أخي أصيب بأزمة : مناديا لم يكد طارق يسمع هـذا، حتـى ،لطبيب أو إسعاف بسرعة

أسرع يضغط زر الفتح األوتومـاتيكي للبوابـة الخارجيـة، والمجاور للباب الداخلي للفيال، وانتظر حتى أطمئن لـدخول

وبقي في ،من أمام البوابة إلى الحديقة، ثم ضغط زر اإلغالق . مكانه منتظراان، استطاعت عيناه تمييز ذلك الذي يتقدم نحوه، وبعد ثو

ولحظات أخرى، تأكد بعدها أنها فتاة بالفعل، تتحرك بخطـى متعثرة تحت مياه األمطار، وإن أخفت الظلمة الحالكة والمظلة

. التي تخفي رأسها، مالمحها تماماواقتربت منه الفتاة أكثر وأكثر حتـى بلغتـه، ورفعـت

ظلتها قليال، وهنا اتسعت عينـاه عـن عينيها إليه وأزاحت م خرهما في انبهار شديد، وهمس لنفسه فـي صـوت غيـر آ

؟ !من هذه حورية من حوريات الجنة؟! رباه:مسموع

Page 114: 5472

١١٣

ورغم أن الجمال الظاهري لم يكن عادة يثيـر اهتمامـه بقدر جمال الجوهر أو الجمال الداخلي، إال أن الفتـاة التـي

ير عادي، جماال من نوع فريـد، وقفت أمامه، كان جمالها غ يختلف عن كل ما قابله من قبل، كان شـعرها أشـد بريقـا

ويكاد طوله يصل إلى قـدميها، منافـسا ! ولمعانا من الذهب الحرير في نعومته، ووجهها أكثر من القمر ليلة تمامه بياضا واستدارة، وعيناها واسعتين يتداخل فيهمـا اللونـان األزرق

مزيج مذهل في جماله، وقد امتألتـا بـدموع واألخضر في وشفتاها في لون حبة الفراولة التامـة . زادتهما بريقا ولمعانا

النضج، وترتدي ثوبا زرعي اللون يضيق حـول خـصرها . النحيل بحزام ذهبي

تسمر طارق في مكانه مأخوذا مبهورا مـسحورا، أمـا مـساء : ه الـدموع الفتاة، فقد قالت بلهفة بالغة، وبصوت تخنق

الخير يا سيدي، إنني شديدة األسف إلزعاجك في مثـل هـذا الوقت والجو، ولكني أتوسل إليك أن تساعدني في إنقاذ حيـاة شقيقي الوحيد، إننا جيرانك الجدد في الفـيال المجـاورة، وال يوجد بها هاتف بعد، ولقد أغمي على أخي فجأة، وأعتقد أنها

Page 115: 5472

١١٤

ستعمال هاتفك السـتدعاء طبيـب أو أزمة قلبية، فهل يمكننا ا سيارة إسعاف؟

بقي طارق لبضع لحظات متسع العينـين يحـدق فيهـا ذاهال، ثم انتفض فجأة كمن يستفيق من حلم طويـل وازدرد

. بالطبع بكل تأكيد طبعا، تفضلي: لعابه وأجابهامنحته الفتاة ابتسامة شاكرة من وسط دموعهـا، وهـو

وخطت بالفعل إلى داخـل الفـيال، يفسح لها الطريق لتدخل، وبقي متسمرا مكانه لثوان أخرى، قبل أن يغلق الباب ويلتفت إليها، ورأى عندئذ جمالها الرائع الفاتن بوضوح أكثر تحـت أضواء الفيال من الداخل، فتمالك نفسه بصعوبة مرة أخـرى

وتوقف لحظة، فقالت الفتاة وهـي تمـسح ... وقال اطمئني يا اسـمي : مياه األمطار عن وجهها بكفهـا الرقيقـة دموعها و

. نورهان يا سيدينورهان، يا له من اسم بالغ : ردد طارق بينه وبين نفسه

. الرقة والعذوبة يتناسب تماما مع صاحبته وفتنتها النادرةال تقلقي يا نورهان أبدا، بـإذن اهللا : ثم رفع صوته قائال

لى مكان إهاتف وأشار لها سيتعافى شقيقك سريعا، ها هو ذا ال وطلبت رقما، وسمعها تتحـدث مـع . فأسرعت إليه . الهاتف

Page 116: 5472

١١٥

الطبيب وتشرح له سريعا ما حدث، ثم أنهت المحادثـة بعـد لحظات، وقد فهم مما سمعه في نهايـة حـديثها أن الطبيـب

. سيأتي بأسرع وقت ممكن: واستدارت إليه الفتاة، وفي عينيها نظرة امتنان، وقالت

. عرف كيف أشكرك على معروفك هذا يا سيديال أإنني حتى اآلن لم أفعل شيئا، ولكـن : قال طارق مبتسما

لو أذنت لي بالذهاب معك إلى فيلتك، والبقاء معك حتى يأتي الطبيب ونطمئن على شقيقك، فسأعتبر نفسي عندئذ فقط قـد

. قمت بما ينبغي على الجيران القيام به تجاه بعضهم البعضولكـن، الوقـت : وقالـت . ت عينا نورهان دهشة اتسع

قاطعها طارق بإشارة من يده، ... متأخر، والجو بالغ السوء و أرجوك أن تمهليني خمـس دقـائق : وقال قد اتسعت ابتسامته

فقط أبدل فيها ثيابي، وأعود إليك على الفـور، فـال الوقـت المتأخر، وال الجو السيئ، وال أي شيء آخر يمكن أن يمنـع

. ار من نجدة جاره عندما يكون بحاجة إليهالجوأسرع إلى حجرة نومه قبل أن تـتمكن نورهـان مـن إضافة كلمة أخرى، تاركا إياها خلفـه فـي غايـة الدهـشة والتعجب، ولم تمض خمس دقائق بالفعل، حتى كـان يغـادر

Page 117: 5472

١١٦

حجرة النوم بثياب الخروج، وبعد دقيقة أخرى كان قد غـادر وسارا في المسافة بين الفيلتين، حتى . نالفيال كلها مع نورها

وصال إلى فيال نورهان وشقيقها، ودخالها، ورأى فيها طارق نموذجا للبساطة والذوق الرفيع في آن واحد، وكانـت مثـل

بالتحف والتماثيل الفخمة الفاخرة، بقدر ما كان ظفيلته، ال تكت منـسقة يبدو فيها اهتماما واضحا بالزهور الرقيقة الجميلة، ال

تنسيقا بديعا، فراح طارق يتأمل ما حوله في دهشة وإعجـاب ترى هل يتحقق حلمي وأجد أخيرا مـن : شديد، وهمس لنفسه

تشاركني أفكاري، وتشاركني أيضا رحلة العمر؟ ولم يطل التفكير به كثيرا، فقد قادته نورهان إلى حجرة

نها حجـرة مغلقة فتحت بابها ودعته للدخول، فدخل، ووجد أ معمل إلجراء تجارب علمية على األرجح، فقد كانت تحتوي على العديد من األجهزة واألدوات والمواد العلمية، وكان في منتصفها تقريبا كتلة ضخمة مغطاة بقطعة قماش كبيرة، أخفت معالمها تماما ولم يستطع أن يستنتج ما هي بالضبط، وعلـى

صـت عليهـا بعـض مسافة قريبة منها كانت منـضدة ترا األدوات، وأمامها كرسي يجلس عليه شاب بدا واضـحا مـن مالمحه شديدة الوسامة أنه شقيق نورهـان، وكانـت رأسـه

Page 118: 5472

١١٧

تستقر على المنضدة أمامه مغمضا عينيه، وقد تدلى ذراعـاه كان يقـوم : على جانبيه، وقالت نورهان بأسى وحزن بالغين

كثر مـن الـالزم، ببعض أبحاثه هنا، ويبدو أنه أجهد نفسه أ هـذا : غمغم طارق وهو يقترب من شقيق نورهان ويفحصه

. يبدو واضحا ولكن عما كانت أبحاثه هذه؟ : ثم سألها باهتمام

لم يكد يتم سؤاله، حتى شعر بالحرج، وتمـتم بكلمـات االعتذار، فلم يكن السؤال مناسبا أبدا في الظروف الحاليـة،

حجرته وسريره اآلن، ليكون من األفضل أن أنقله إلى : وقالفي وضع أكثر راحة من ناحية، وليتمكن الطبيب من الكشف

. عليه من ناحية أخرىهزت نورهان رأسها موافقة، وهي تنظر إليه بامتنـان، فأسرع يحمل شقيقها ومشى خلفها لترشده إلى مكان حجـرة النوم، وهناك أرقده على سريره، وغطاه بمساعدتها ببطانيـة

، ثم خرجا وأغلقا الباب وراءهما، واتجها إلـى صـالة ثقيلةالفيال، وقالت نورهان بابتسامة باهتة سأعد مـشروبا دافئـا

. وأعود بعد دقائق

Page 119: 5472

١١٨

واتجهت للمطبخ وغابت فيه، أما طارق فقد جلس علـى أحد مقاعد الصالة وسرح بفكره، وهو يدير عينيه فيما حوله،

أكثر وأكثر، ثم اتجه تفكيـره وازداد إعجابه وانبهاره بالمكان إلى شقيق نورهان، الذي ال يعرف اسمه حتى اآلن، ترى من

ه في معمله من أجهزة وأدوات يعرف معظمها آهو؟ إن ما ر بحكم عمله في هندسة اإللكترونيات، يدل على مهندس كبير، بل عالم في مجال الهندسة يجري تجاربه، ولكنه يبدو صغير

صغر السن ال يمنع الموهبة، ربما كان : السن، وقال في نفسه موهوبا ويسعى إلثبات ذاته باختراع أو ابتكار جديد يلفت إليه األنظار، وربما كان هذا االختراع هو ذلك الشيء المغطى في

معمله، ولكن ترى ما هو؟ قطع أفكاره صوت خطوات نورهان قادمة من المطبخ،

الـدخان، ناولتـه تحمل صينية عليها كوبان يتصاعد منهمـا أحدهما فابتسم لها شاكرا، وتناولت هـي كوبهـا ووضـعت الصينية على منضدة قريبة وهمـت بـالجلوس علـى أحـد المقاعد، عندما ارتفع فجأة رنين جـرس البـاب الخـارجي، فأسرعت بوضع كوبها في الصينية وهرعت تفـتح البـاب، وأسرع طارق وراءها، وكان الطبيب قد وفى بوعده وجـاء

Page 120: 5472

١١٩

بأقصى سرعة بالفعل، وقاده االثنان إلى حجرة النوم مباشـرة حيث يرقد شقيق نورهان ودخل الطبيب، وبعد إجراء الكشف على الشاب قرر أنها بالفعل أزمة قلبية بسيطة نتيجة اإلجهاد،

وأكـد . وكتب مجموعة من األدوية طلب سرعة إحـضارها على ضرورة راحة المريض وعدم حركته ألسبوعين علـى

األقل، ووعد بمتابعته بعد ذلك حتى يشفى تمامـا، وشـكرته نورهان وطارق بحرارة، وأوصـاله حتـى البـاب، وبعـد

. سأذهب إلحضار األدوية المطلوبة: انصرافه قال طارقاآلن؟ وفـي طقـس : التفت إليه نورهان بدهشة وقالت

كهذا؟ لم يؤكد الطبيب على ضـرورة سـرعة أ: أجابها طارق

ومن حسن الحظ أن هنـاك صـيدليات ال تغلـق إحضارها؟ أبوابها ليال أو نهارا، وأنا عندي سيارة فلـن تكـون هنـاك

. مشكلةصدقني لـست : وقالت. ظهر التأثر الشديد على نورهان

أدري ماذا أقول، إن ما فعلته الليلة وما تنوي فعله أيضا مـن . الصعب أن أجد الكلمات الكافية لوصفه

Page 121: 5472

١٢٠

أجلى البحث إذن وال تشغلي بالـك، : لابتسم طارق وقا على األقل حتى يشفى شقيقك ويستعيد صحته، وصمت لحظة

إنني ال أعرف اسمه حتى اآلن؟ ،بالمناسبة: ثم سألها . منير: أجابته نورهان

رفع طارق حاجبيه وخفضهما، واتسعت ابتسامته وهـو . انورهان ومنير، يا لهما من اسمين مناسبين لكما تمام: يقول

تخضب وجه نورهان بحمرة الخجل، وزادها هذا فتنـة . وجماال وسحرا، فقال طارق بسرعة

حسنا يا نورهان سأذهب إلحـضار األدويـة، وأعـود . بأقصى سرعة

وانصرف بالفعل وذهنه مشغول باسترجاع أحداث تلـك الليلة، وتأكد من شيء واحد، أنه مهما حدث بعد ذلك ومهمـا

فإن هذه الليلة لن تنسى ولن تمحى مـن مضت من سنوات، وعاد بعد ما يزيد بـدقائق قليلـة عـن نـصف . ذاكرته أبدا

الساعة، حامال كيس األدوية، وأعطاه لنورهـان، وانـصرف فورا دون أن يعطيها الفرصة ألي كالم، وعاد لفيلته، وغيـر ثيابه، واستلقى على فراشه، ونظر لـساعة الحـائط، التـي

اربها إلى قرب الساعة الواحـدة، فأطفـأ النـور أشارت عق

Page 122: 5472

١٢١

واسترخى محاوال النوم، ولكنه لم يستغرق فيه إال بعد أكثـر من ساعة، ولم يكن هناك فارق بين نومه ويقظتـه بالنـسبة لعقله، ففي كلتا الحالتين لم يكن يفكر أو يحلم إال بنورهـان،

. ومنير، وما ستحمله له األيام القادمة معهما تأخره عن ميعاد نومه المعتاد، فلم يتغير روتـين ورغم

يومه المعتاد، إال أنه حين عاد من عمله لم يذهب إلى فيلتـه كعادته، وإنما اتجه إلى فيال منير ونورهان المجـاورة، ودق جرس الباب الخارجي، وبعد لحظات فتحـت لـه نورهـان،

اذ وأشرق وجهها حينما رأته، وهتفت مرحبة، أهال وسهال أست طارق، كنا أنا ومنير في انتظار زيارتك هذه، علـى األقـل لنحاول أن نوفيك بعض حقك من الشكر على ما فعلته معنـا

. أمسإنني لم أفعل شـيئا أسـتحق عليـه : قال طارق مبتسما

الشكر، لم أفعل سوى الواجب، ولكن المهم، ما أخبار منيـر اليوم؟

لقد استعاد . ثيرأجابته نورهان بارتياح واضح أفضل بك وعيه أخيرا، وهو يتمنى رؤيتك بعد ما عرف دورك في إنقاذ

. حياته أمس

Page 123: 5472

١٢٢

. أنا أيضا أتمنى مقابلته: قال طارق . لماذا ال تدخل إذن؟ تفضل: قالت نورهان

ودخل االثنان واتجها إلى حجرة منير، الذي كان ال يزال بعـض راقدا في فراشه وإن كان مفتوح العينين وقد جـرت

الدماء في وجهه مخففة حدة الشحوب واالصفرار الذي كـان يعلوه أمس، وأمطر طارق بعبارات الشكر والثناء والعرفـان بالجميل بعدما عرفته نورهان به، ثم تركتهما لتعـد شـرابا

: دافئا، وجلس طارق على مقعد بجانب سرير منير وقال لـه س، والحمد من الواضح أنك في حال أفضل مما كنت عليه أم

هللا، ولكن أرجو أال يغريك ذلك بمخالفة تعليمات الطبيب، وال بد أن نورهان قد أخبرتك أنه قد أكد على ضـرورة راحتـك

ظهر األسى واألسـف الـشديد . التامة ألسبوعين على األقل وال يمكنك تخيـل . نعم لقد علمت بهذا : على وجه منير، وقال

. تضيع الفرصةمقدار حزني وأسفي له، فهذا معناه أن الفرصة؟ أية فرصة؟ : سأله طارق بدهشة وحذر

بعـد مـا فعلتـه : صمت منير قليال، ثم هز رأسه وقال أمس، لم تعد غريبا، وسأخبرك، إنني مهنـدس إلكترونيـات شاب مبتدئ، أسعى لتحقيق النجاح الساحق بضربة واحدة أو

Page 124: 5472

١٢٣

ا فقط، بل باختراع واحد يمكن بعده أن يلتمع اسمي ليس محلي . وربما عالميا أيضا

: ازدادت دهشة طارق وتضاعفت، ومال على منير قائال لقد أثرت فضولي إلى أقصى حد ممكن، أي اختراع هذا؟

نورهان أخبرتني أنك نقلتني من معملي إلـى : قال منير هنا، وال شك أنك قد رأيت ذلك الشيء المغطى هنـاك، إنـه

ني من حال إلى حال، إنني قـد اختراعي، الذي لو نجح سينقل توصلت لفكرة مركبة فضائية، شبيهة باألطباق الطائرة التـي نسمع عنها، لها إمكانيات فائقة بالغة التطور، من حيث الحجم والسرعة وبعد األماكن التي يمكنها الوصول إليها في الفضاء، نعم ال تعتقد أن هذا خياال، إنه حقيقة واقعة يمكنـك رؤيتهـا

لمسها بيديك، ولقد كنت أضع اللمسات األخيرة علـى هـذا واالختراع استعدادا لعرضه في معرض سنوي كبيـر لـشباب المخترعين سيقام بعد ثالثة أيام، وقد استأجرت هذه الفيال منذ حوالي أسبوعين وانتقلت إليها مع نورهـان، لكـي يعيننـي الهدوء المحيط بها على سرعة إنهاء اختراعي فـي الوقـت المناسب، ولكن يبدو أن الرياح تأتي أحيانا فعال بما ال تشتهي السفن، فنتيجة خلل بسيط في الحسابات حـدث عطـل فـي

Page 125: 5472

١٢٤

االختراع ولم يعمل، وأحتاج الكثيـر مـن الجهـد والوقـت إلصالح هذا الخطأ، وما زال يحتاج للمزيد، ولكني، أعنـي

جهـد جسدي لم يحتمل مواصلة الليل بالنهار في العمـل وال المتواصل، مع توتر األعصاب الشديد، فحدث لي ما حـدث باألمس، وقد ضاعت علي بذلك الفرصة للحـاق بـالمعرض

. الكبير الذي يتبنى شباب المخترعينظل طارق صامتا بعد أن انتهى منير من حديثـه ولـم يعلق، وكأنما يحاول استيعاب كل ما سمعه، ودخلت نورهان

مه كوب الشراب الدافئ، ثم استأذنت في هذه األثناء لتضع أما في إنهاء بعض األعمال في الفيال وتركتهما بمفردهما، والتقط طارق كوب الشراب وراح يرتشف منه ببط وعالمات التفكير العميق ظاهرة على وجهه، ثم اعتدل فجأة ووضع الكوب من

اسمع يا منير، ما صارحتني بـه : يده والتفت إلى منير قائال ثقة كبيرة منك في، أشكرك عليها كثيرا، وتشجعني يدل على

على أن أطلب منك أن تسمح لي بالوقوف بجوارك في هـذا األمر أيضا، ومحاولة إصالح اختراعك وإنهائه قبـل ميعـاد المعرض، صحيح أنك تستطيع إتمامه بعد تمام شفائك بـإذن

ـ ان اهللا، وتقديمه للجهات المسئولة في أي وقت، إال أنه إذا ك

Page 126: 5472

١٢٥

هناك احتمال ألن أنجح ويعرض اختراعك فـي المعـرض، فماذا يمنع من المحاولة؟ على أية حال، لك مطلق الحرية في

. القبول أو الرفضظهر التردد على وجه منير، وصمت بضع لحظات، قبل

ن ما روته لي نورهان، وما إليست مسألة عدم ثقة، : أن يقول عل بداخلي ثقة كبيـرة شعرت به اآلن عند مقابلتك بنفسي، يج

ال لما صارحتك بأمر االختراع، ولكـن، المـسألة أن إبك، و االختراع يحتاج الكثير، خاصة إلصالح ذلك العطل به، ثـم إكمال الجزء المتبقـي، وإذا كنـت تتحـدث عـن اللحـاق بالمعرض، فانظر ماذا حدث لي نتيجة السباق مـع الـزمن

. ألجل ذلك كان نتاج عمل متواصل ما حدث لك : ابتسم طارق وقال

ألسابيع وشهور طويلة، وليس ليومين أو ثالثة، ثم إنني قلتها ال شيء مهما كان يمنع الجار من نجدة جاره : لنورهان أمس

. عند احتياجه غليهلـست : ظهر التأثر الشديد هذه المرة على منير، وقـال

نك إنسان نادر المثال في هـذا الـزمن إأدري ماذا أقول إال . ب، ومقابلتك والتعرف عليك هدية حقيقية من السماءالصع

Page 127: 5472

١٢٦

فلنؤجـل كـل : نهض طارق وقد اتسعت ابتسامته وقال الكالم الجميل لما بعد المعرض بإذن اهللا، وكانت هذه الجملـة بداية ثالثة أيام من العمل المتواصل بـين الـشركة ومعمـل منير، لم يذق فيها طارق الطعام أو يخلد للراحـة والنـوم إال

أقل القليل، وحين جاءت الساعات األولى من يوم المعـرض كان طارق يجفف عرقه رغم برودة الجو خاصة مع الوقـت المتأخر ليال، ثم غادر معمل منير واتجه لحجرة هذا األخيـر حيث كان يرقد على فراشه وتجلس بجواره شقيقته نورهـان،

ه وهـو وألقى طارق نفسه على أقرب مقعد إليه، والتقط أنفاس يواصل تجفيف عرقه للحظات، قبل أن يبتسم بإرهاق واضح

كل شيء على ما يرام أخيرا، سيكون اختراعك قنبلـة : قائالتبادل منير ونورهان النظر وفـي عيونهمـا . المعرض بحق

ارتياح واضح، وفي اللحظة التالية، حدث ما جعل طارق يثب بمنير الـذي كـان، من مقعده ذاهال فزعا مرتاعا، فقد فوجئ

حتى دخوله الحجرة، راقدا علـى فراشـه وال زال بعـض الشحوب واالصفرار يكسوان وجهه، فوجئ به ينهض وتظهر عليه عالمات الصحة والعافية وإلى أقصى حد يمكن تخيلـه،

....!!! شكرا لك أيها األرضي: ثم سمعه يقول

Page 128: 5472

١٢٧

عجز طارق نهائيا عن النطق، فتكلمت نورهان بصوت تلك هي الحقيقة يا طارق، نحن لسنا من : سوه بعض الحزن يك

كوكبك، بل وال حتى من مجموعتك الشمسية أو مجرتك، إننا !! من كوكب يبعد عن كوكبك ماليين السنين الضوئية

استطاع طارق أن يحرك لسانه أخيرا بـصعوبة بالغـة ولكـن كيـف؟ : وقال بخفوت شديد وصوت ال يكاد يـسمع

ولماذا؟ سنخبرك باختصار ونرحل على الفور، فلـم : ال منير ق

وليس اسـمها –يعد لدينا الكثير من الوقت، إننا أنا وزميلتي نعمل في هيئـة فـي –نورهان بالطبع، وال أنا اسمي منير

كوكبنا تختص بجمع المعلومات عن الكواكب األخرى التـي تعيش عليها مخلوقات عاقلة مثلنا، وترسل بعثات الكتـشافها

وإحضار عينات منها ومحاولة االستفادة منها إن أمكن، ولقـد وقع علينا االختيار نحن االثنين ومجموعة أخرى من الزمالء الكتشاف كوكبك ومجموعة أخرى من الكواكب القريبة منـه بالنسبة إلينا، وكان نصيبنا نحن كوكبك بالتحديد، ولم يكن من

ة أسـابيع بـزمن المفترض أن تستغرق مهمتنا أكثر من ثالث كوكبك، وهي الفترة التي يكون كوكبنا فيها أقرب ما يمكـن

Page 129: 5472

١٢٨

لكوكبك، وهو ما ال يحدث إال لمرة واحدة كل آالف الـسنين من سنين كوكبك، وينبغي قبل انتهاء هذه األسابيع الثالثـة أن

وهي ما قضيت أنت معها األيـام –نستقل مركبتنا الصغيرة لـى إ – جديدا لمهنـدس شـاب الماضية باعتبارها اختراعا

المركبة األم حيث تجتمع مركبات الزمالء أيضا من الكواكب األخرى، ونعود إلى كوكبنا في موعد تمت برمجة المركبـة األم عليه آليا، لتكون في الكوكب في الوقت المناسب، ولكـن الحظ العاثر الحقنا في هذه الرحلة، فلم نكد نهبط هنـا حتـى

مفاجئ في مركبتنا، علمنا من اتصالنا بـأجهزة فوجئنا بعطل المركبة األم أنه نتاج خلل بسيط في تـصميماتها لـم يكـن متوقعا، ولم يكن بإمكاننا إصالحه، حتى مع إرشادات األجهزة في السفينة األم والمهندس المسئول فيها أيضا، والذي لم يكن ة من الممكن أن يلحق بنا هنا فليست هناك مركبـات صـغير

أخرى احتياطية على السفينة األم، وهذا كـان خطـأ آخـر، ولكننا تمكنا من خـالل اتـصالنا بـاألجهزة فـي سـفينتنا، وبمساعدة المهندس المـسئول، مـن الحـصول علـى كـل تصميمات مركبتنا، واستطعنا بما جمعناه من معلومات عنكم أن نضعها في شكل تصميمات اختراع أرضي، وقمنا بهـذه

Page 130: 5472

١٢٩

عليك أنت بالذات بعد ما جمعناه من معلومات عنك، التمثيلية ووجدناك أفضل من يمكننا التأثير عليه والحصول منه علـى

قد أنقذتنا وأصلحت انتائج جيدة، وهذا ما حدث بالفعل، فهاأنتذ المركبة في الوقت المناسب تماما، فبعد ساعات ومع الشروق

حلـة العـودة التالي للشمس على كوكبكم، تبدأ سفينتنا األم ر خـر لكوكبنا، وعلينا أن نلحق بها قبل ذلك، أما سوء الحظ اآل

الذي منينا به فهو أن كوكبكم أقل بكثير من كوكبنا، وليس به . ما يمكننا االستفادة منه

إن : قالت نورهان وال تزال نبرة الحزن تكسو صـوتها كما قـال –شكلينا ليسا كما ترانا يا طارق، وال اسمينا أيضا

كما تعرف، ولكن ربما كان حسن الحظ الوحيد في –زميلي هذه الرحلة أن قوانين الهيئة التي نعمل لديها تحظـر علينـا إظهار الشكل الحقيقي لنا أو إعالن أسمائنا الحقيقية طالما كنا في مهمة الكتشاف أحد الكواكب، فال نهبط عليه إال بعد جمع

ر بمظهر قريب جـدا معلومات أولية عنه تساعدنا على الظهو من سكان الكوكب، والتحدث بلغتهم، واختيـار أسـماء مـن األسماء المعروفة عندهم إذا اضطرنا األمر للتعامل معهـم، وهذا أفضل كثيرا بالنسبة لك يا طارق، فليبقى شكلينا واسمينا

Page 131: 5472

١٣٠

في ذهنك كما هما، ولتعتبر لقاءنا بك حلما عشت فيه بـضعة . ك أبدا كما لن تنسانا أنتأيام، وثق أننا لن ننسا

: التفت إليها منير ونظر إليها لحظات، قبـل أن يقـول : ونظر إلى طارق قـائال . أعتقد أن وقت رحيلنا قد حان اآلن

. الوداع أيها األرضيواتجه إلى باب الحجرة وغادرها إلى المعمل، بينما بقيت نورهان تنظر إلى طارق لحظات، ثم أخرجت مـن جيبهـا

هـذه مـن أجلـك، رسـمتها : طوية قدمتها إليه قائلة ورقة م . خصيصا لك في األيام الماضية

ونظرت إليه ثوان أخرى قبل أن تتجه بخطوات بطيئـة إلى حيث تلحق بزميلها، ليعودا لكوكبهمـا، وبقـي طـارق متسمرا في مكانه لحظات بعد انصرافها، ثم نظر إلى الورقة

، وألقى نظـرة علـى مـا التي تركتها في يده، وفتحها ببطء . تحتويه

كان منظرا يمثل أمطارا وعاصفة عاتية، وفي وسـطها، . رسم قلب دافئ

م م ٢٠٠٢٢٠٠٢/ / ٩٩/ / ١١١١

Page 132: 5472

١٣١

الغاية أبدا ال تبرر الوسيلةالغاية أبدا ال تبرر الوسيلة

كان صباحا مشرقا جميال، وقد أعلنـت الـساعة تمـام الثامنة صباحا، حينما دخل الدكتور جالل بسيارته إلى ساحة

فى الضخم الذي يعمل به، وأوقف السيارة وغادرهـا، المستشوأغلقها وهو يطلق زفرة حارة من أعماقه، قبل أن يتجه إلـى

. باب المستشفى الداخلي، ويعبرهوباقتضاب كان يرد على تحية زمالئه وتالمذته األطباء الكبار والصغار، واستقل المصعد إلى الطابق الذي يقع فيـه

وصل المصعد فغادره وقطع الممـر مكتبه شارد الذهن، حتى . الطويل الذي يقع مكتبه في نهايته

ودخل المكتب ليجد زميله وصـديق عمـره الـدكتور مصطفى جالسا خلف مكتبه، فألقى عليه تحية الصباح بـنفس االقتضاب واتجه لمكتبه ليجلس خلفه، بينما رفـع مـصطفى

مـاذا : عينيه إليه مندهشا، وحدق فيه لحظات، قبل أن يسأله بك؟ ما الذي حدث لك؟

التفت إليه جالل، وظل صامتا لبرهة، قبـل أن يجيـب . ال، ال شيء، لم يحدث شيء: بشيء من الشرود

Page 133: 5472

١٣٢

نهض مصطفى، واتجه إلى مكتب جالل وجلـس علـى جالل، لست بحاجة ألن أذكرك بعدد : مقعد أمام المكتب، وقال

تقـد أنهـا سنين عمر معرفتنا وصداقتنا أنا وأنت ومراد، وأع ن كال منا يفهم اآلخر جيدا، ويحس به، إن أقول تكفي وتزيد أل

وأنا أثق اآلن أن هناك ما يشغلك ويكدرك، والبوح بـالهموم لشخص مقرب دائما ما يريح اإلنسان، فهال فتحت لي قلبـك

وبحت لي بما يحزنك هكذا؟ بقي جالل صامتا للحظات، شاردا، قبل أن يتراجع فـي

يطلق زفرة ملتهبة كالحمم، ويلتفت إلـى مـصطفى مقعده، و لم يحدث جديد يا مصطفى، ولكنك تعرف مشكلة حياتي : قائال

. والهم الكبير فيهابدت عالمات الفهم على مصطفى، وتراجع فـي مقعـد

آه، تقصد مشكلة عدم اإلنجاب، حسبتك نـسيتها : بدوره قائال . منذ مدة

كيف لـي، أو : قولابتسم جالل بمرارة واضحة، وهو ي لزوجتي، أن ننسى أمرا كهذا؟ كل ما في األمر أننا كنا نحاول عامدين إجهاد نفسينا في العمل بقدر ما نستطيع، لكيال نفكـر

Page 134: 5472

١٣٣

في تلك المسألة، ولكنها في أعماق كل منا، وال تتغيب عـن . ذهنينا أبدا، خاصة مع تقدمنا في العمر

ا انفتح باب المكتب هم مصطفى بأن يقول شيئا ما، عندم فجأة ودخل الدكتور مراد، زميلهما الثالث، وعلى النقيض من الحالة التي دخل بها جالل، كان مراد يبدو في ذروة سـعادته

صباح الخيـر يـا رفيقـا : وسروره، وصاح بصديقيه بمرح الكفاح، أتعلمان آخر األخبار؟ تجاربي في الهندسة الوراثيـة

و حدث ذلك سأشتهر ليس محليـا تقترب جدا من النجاح، ول . فقط، بل وعالميا أيضا

مبروك يا مـراد، : ابتسم مصطفى ابتسامة باهتة، وقال تستحق ذلك عن جدارة فلقد تعبت في هذه التجارب واألبحاث

. كثيراأما جالل، فقد اغتصب ابتسامة صغيرة، وهـو يقـول

فتـت نقل مراد بصره بينهما، وقد خ ،مبروك يا مراد : بدورهما بكما؟ يبدو أن هنـاك مـا : ابتسامته قليال، قبل أن يسألهما

يشغلكما؟

Page 135: 5472

١٣٤

أطرق جالل برأسه محاوال التشاغل بعمل وهمي، أمـا جـالل : مصطفى فقد صمت قليال، قبل أن يقول ففي خفوت

. مهموم بشأن عدم إنجابه هو وزوجته حتى اآلنالحل لقد عرضت عليك : هز مراد رأسه متعجبا، وقائال

مرارا وتكرارا يا جالل، ولست أدري ما الذي يمنعـك مـن . السعي إليه

: ارتفع صوت مصطفى وهو يقول بـشيء مـن الحـدة مراد، سبق أن أخبرتك أن الحلول التي يعتمد عليها الغـرب في مثل هذه الحاالت ال تناسب عقيدتنا وشـريعتنا، وجـالل

نظـر . لك ثانية لى ذ إمقتنع بذلك، فأرجوك ال تحاول اإلشارة : لى جالل قـائال إليه مراد في شيء من االستخفاف، والتفت إ

إذا ظللت متمسكا بهذه األفكار المتزمتـة، فعليـك أن تنـسى . موضوع اإلنجاب هذا تماما

قال ذلك وهو يلتقط بعض األوراق من فـوق مكتبـه، ويغادر المكتب ثانية، تاركا صديقيه وقد خيم عليهما الصمت،

ن ينهض مصطفى ويدور حول مكتب جالل، ويربـت قبل أ ال تهتم يا صـديقي بمـا : على كتف هذا األخير بمودة، قائال

سمعته، أنت تعرف مراد واندفاعه، وإيمانه بالمبدأ المكيافيللي

Page 136: 5472

١٣٥

، وأنـت وزوجتـك أجريتمـا "الغاية تبرر الوسـيلة "الشهير هللا التحاليل الالزمة وأكدت سالمتكما، فال تقنطا من رحمـة ا

. أبدا: ورسم ابتسامة على وجهه مصطنعا المرح وهو يقـول

ثم ما حكاية تقدمكما في العمر، هذه؟ جميعنا ال نزال في عز الشباب، أنسيت أم ماذا؟

وأجبر جالل نفسه على االبتسام وهو ينظر إلى صـديقه . ممتنا، وربت هذا على كتفه ثانية، ثم عاد لمكتبه

األيام، وتلته أيـام وأسـابيع، ومضى اليوم، كغيره من وفوجئ مصطفى يوما أثناء عودته لمنزله البعيد نسبيا، بجالل

يتصل بـه علـى هاتفـه – الذي تركه منذ أقل من ساعة –المحمول، فقلق بشدة، وأسرع يفتح الخط، ولم يكد يفعل، حتى

تحققت المعجزة يـا : اخترق صوت جالل أذنيه، وهو يصرخ ! صدق، سلوى حامل، حامل يا مصطفىمصطفى أخيرا، لن ت

ولم يصدق مصطفى بالفعل، ولم يلبث أن صرخ بـدوره الحمد هللا، الحمد هللا يا جالل، ألم أقل لـك يـا : في فرح طاغ

صديقي العزيز، إن رحمة اهللا سبحانه وتعالى واسـعة، فـال تقنط أنت وزوجتك منها أبدا؟ أبلغ مراد، عله يفهـم ويـتعظ،

Page 137: 5472

١٣٦

ليلة معا لنحتفل بهذه المناسبة السعيدة، ألف ألف ولنتقابل كلنا ال . ألف مبروك يا جالل

واتفق على موعد ومكان اللقاء مع جالل الـذي كـادت . الفرحة تفقده صوابه، قبل أن ينهي معه المكالمة

وكانت سهرة جميلة واحتفاال أجمل، جمع األسر الثالثـة ظمهـا الصديقة، وتبادلوا الضحكات والـدعابات، ودارت مع

بالطبع حول المولود المنتظر الذي سيأتي أخيرا بعـد طـول . انتظار

وتتابعت األيام والشهور، وتوزع اهتمام جالل وسـلوى بين شيئين أساسيين ال ثالث لهما تقريبا، عملهما، واستعدادات استقبال الوليد الجديد، وكانت معظم أحاديثهمـا معـا ومـع

. هأصدقائهما ومعارفهما، تدور حولوقل أن يأتي ميعاد الوالدة المنتظر، خرج الطفل للحياة، ولكن المفاجأة القاسية ألبويه وأصدقائهما الذين رافقوهما، أنه طفل ناقص النمو، ضعيف، نتيجة والدته قبل موعده، ولكبـر

كانت صـدمة قويـة . سن أمه نسبيا، بالنسبة للحمل والوالدة ث ذلـك خاصـة األب لألبوين، رغم علمهما باحتماالت حدو

الطبيب، إال أن طول انتظار هذا الوليد جعلهما ينـسيان كـل

Page 138: 5472

١٣٧

شيء وال يتخيالن أن يأتي ابنهما المنتظر إال سليما صـحيحا . قويا، فكانت الصدمة لهما حدوث غير ذلك

وتم نقل الطفل إلى الحضانة فورا، وفحـصه األطبـاء يام قليلة، جـاءت وأحاطوه بالعناية والرعاية الالزمين، وبعد أ

النتائج المروعة، الطفل لديه ضعف في الجهـاز المنـاعي، واحتماالت تعرضه لألمراض الخطيرة وارد بـشدة، وهـذا

. معناه أن حياته قد ال تطول كثيراوفعل أصدقاء الزوجين، ال سيما أسرة الدكتور مصطفى والدكتور مراد، المستحيل في سبيل تخفيف المفاجـأة القاتلـة

هما، ولكن هيهات فقد أصيب كالهما بانهيار كامل، وغابا عليتقريبا عن الوعي وعن الشعور بما حولهما، ولم يعد يختلـف نهارهما عن ليلهما، أو يومهما السابق عن غدهما، وأصبحت

. حالتهما أسوأ مما كان عليه قبل والدة الطفلوفي يوم جلس مصطفى ومراد يتحدثان، قال مـصطفى

لست أدري ما الذي سينتهي إليه أمر جـالل، : بحزن وأسى أتعلم أنه : قال مراد بحماس . الحزن سيقتله تقريبا هو وزوجته

قد يكون لدي تقريبا الحل لمشكلتهما؟ ماذا تقول؟ : أنتفض مصطفى، وصاح

Page 139: 5472

١٣٨

أنت تعلـم : اعتدل مراد، وتضاعفت حماسته، وهو يقول طورت فيهـا أنني أجرى تجارب في الهندسة الوراثية، ولقد

تطويرا مذهال، لم يكن أحد يحلم به من قبل، إننـي أسـتطيع التحكم في كل أجزاء وأعضاء الجسم، سواء البشري أو غير البشري، وسواء كان ذلك لألجنة أو حتى للمولودين أيـضا، والحالة التي يعاني منها ابن جالل، يمكن عالجهـا، ولكـن

وصحيح تماما، وسأنتزع األمر يحتاج لطفل آخر، قوي وسليم منه جينات خاصة، وأزرعها في جسد ابن جـالل، فيـشفى

. ويصبح سليما ومعافىولكن، ماذا عن الطفل الـذي : قال مصطفى بحذر وشك

ستنقل منه الجينات؟ ماذا سيكون مصيره في هذه الحالة؟

وماذا يهم؟ : هز مراد كتفيه بال مباالة وقالماذا تعنـي : ن مقعدة هاتفا اتسعت عينا مصطفى وهب م

يا مراد؟ يا صديقي العزيز، مـن : نظر إليه مراد باستهزاء، وقال

الذي يهمنا؟ ابن جالل أم الطفل اآلخر؟

Page 140: 5472

١٣٩

كالهما يا مراد، كالهما، الطفل اآلخـر : صاح مصطفى أيضا له حق الحياة، وله أبوين ال يحق لمخلـوق حرمانهمـا

. منه: اف واالسـتهزاء، وقـال نظر إليه مراد بنفس االستخف

بسيطة، سنختار طفال ألسرة لديها أطفال آخرين، لن يكـون . الطفل الوحيد لديها

على األقل، نخفف : وأطلق ضحكة قصيرة، قبل أن يتابع . العبء قليال من على عاتق هذه األسرةيا صـديقي، الغايـة : وعاد يطلق نفس الضحكة، مكمال

. لكتبرر الوسيلة، حاول أن تفهم ذكال يا : اعتدل مصطفى في وقفته، وقال بحزم وصرامة

: ألني أؤمن بالعبـارة المـضادة ! مراد، لن أفهم، أتعلم لماذا؟ الغاية أبدا ال تبرر الوسيلة، ولتعلم أنني سأقف في وجـه مـا

. تريد فعله بكل ما أستطيع، ولن أجعل جالل يوافق عليه أبدا ولمـاذا ال : قـة وتحـد هز مراد كتفيه مرة أخرى، وقـال بث

نجرب؟ . نجرب: أجابه مصطفى بتحد مماثل

Page 141: 5472

١٤٠

وغادرا حجرة المكتب ثم المستشفى كلها واتجها إلى بيت جالل، واستقبلهما هذا األخير بحالته نصف الواعية، وجلسوا

. معا، وساد الصمت لحظاتجـالل، أدرك عمـق : ثم قال مصطفى بصوت خافـت

ذا الحـزن نفـسه ينبغـي أن حزنك على حالة ابنك، ولكن ه يجعلك تشعر بمأساة أسر أخرى إذا ما تعرضت لفقدان أحـد أبنائها، فكما لم تيأس من رحمة اهللا حتى رزقك بهذا الطفـل، فال تيأس من رحمته سـبحانه وتعـالى اآلن، إن أراد حيـاة البنك، فسيعيش، وإن لم تكتب له الحيـاة، فـستكون إرادتـه

ندئذ واحتسبه عنده، وسـتجزى ومشيئته عز وجل، فاصبر ع بإذن اهللا عن ذلك خير الجزاء، ولكن يا صـديقي ال تـدفعنك الرغبة في بقاء ابنك على قيد الحياة إلى الموافقة على إيـذاء

انتزعت كلماته األخيرة جـالل بعـض ،غيره في سبيل ذلك الشيء من حالته، فأدار رأسه إليه ببطء وقال بخفوت شـديد

ماذا تعني؟ : وصوت ال يكاد يسمعباختصار، مراد يريد تطبيق : قال مصطفى بحزم وحسم

إحدى تجارب الهندسة الوراثية على ابنك وعلى طفل آخـر،

Page 142: 5472

١٤١

والنتيجة حياة ابنك وموت الطفل اآلخر، فهل يمكن أن توافق على ذلك؟

اسمعني جيدا يـا جـالل، : تحدث مراد ألول مرة قائال دئ والمثل التي سـتنتهي ودعك من أحاديث العواطف والمبا

لى فقد ابنك، إن التجارب التي أجريتهـا وصـلت إلـى إبك مستوى متقدم جدا، وأنا أضمن لك سالمة ابنك وحياته، ولكن ال أضمن ذلك للطفل اآلخر، فهل ستضحي بحياة ابنك الوحيد،

الذي جاءك بعد طول انتظار؟ ال يمكنك أن تضمن أي شيء علـى : قال مصطفى بحدة

. الق، الحياة والموت بيد الخالق عز وجل وحدهاإلطأتحدث عن النتائج : هز مراد كتفيه بال مباالة، وهو يقول

. العلمية التي توصلت إليها في تجاربي . إن اهللا فوق كل علم: قال مصطفى بنفس الحدة

رفع جالل يده في هذه اللحظة، مشيرا لهما بالـصمت، نفس الخفوت، والصوت وصمت الجميع برهة، ثم قال جالل ب

من فضلكما، أغلقا باب الحديث في هذا : الذي يسمع بصعوبة األمر، ودعاني أفكر فيه على مهل، فلـن يمكننـي التركيـز

. وإعطاؤكما جوابا اآلن

Page 143: 5472

١٤٢

ذنا في أتبادل مصطفى ومراد النظرات، ثم نهضا، واست . االنصراف، وغادرا البيت تاركين جالل مع أفكاره وأحزانه

مان، ثم فوجئ مراد بتليفون من جالل قال له ومضى يو في التجهيـز للعمليـة، أمراد، موافق على اقتراحك، ابد : فيه

! وأنهى المكالمة،وحاول جهدك أال يعلم مصطفى بشيءولثوان بعدها، بهت مراد، ثم لم يلبث أن أطلق صـرخة فرح هائلة، لقد انتصر، انتصر على مصطفى، وعلى آرائـه

، أخيرا، وفـوق هـذا سـيحقق )زمتة السخيفة الرجعية المت (طموحه العلمي ويلتمع اسمه محليا وعالميا أيضا، إنها فرصة

. عمره وقد جاءته، فيا لسعادة والهناء والفرح والسرورثم بدأ، بعد أن هدأ قليال من فرحته العارمة، يفكر فـي

ال أن أهم شيء كما قال جالل إخطوات إتمام ونجاح العملية، عر مصطفى بشيء، على األقل حتى تنتهي العملية، ثم بعد يش

ذلك عليه أن يجد طفال مناسبا من المواليد بالمستشفى، وبعـد للعملية، ويقوم – ابن جالل والطفل اآلخر –ذلك يعد كالهما

. بهاونفذ كل ذلك بمنتهى الدقة، فحرص على تغطيـة كـل

يء، واستعان خطواته جيدا، وأن ال يعلم مصطفى عنها أي ش

Page 144: 5472

١٤٣

على ذلك باألطباء الصغار والممرضات والممرضين، الـذين استعمل معهم تارة الترغيب والمكافآت بمختلـف صـورها، وتارة التهديد أيضا بشتى صورة وأنواعه، ليـساعدوه علـى

، وأيضا في إيجاد الطفـل )المتزمت(إخفاء األمر عن صديقه ي فيه تجاربـه، المناسب ونقله إلى معمله الخاص الذي يجر

ونقل ابن صديقه جالل أيضا، ثم المساعدة في إجراء التحاليل أجـرى ........ الالزمة قبل العملية وإعداد الطفلين لها، ثـم

!! العمليةومرت الساعات، على كل المشاركين فيها وعلى رأسهم مراد، وعلى جالل أيضا الذي كان ينتظـر خـارج معمـل

نه ال يكف عن الدعاء واالبتهال، األبحاث الخاص بمراد ولسا كالدهر، ثم انفتح باب المعمل فجأة وخرج مراد، وعلى وجهه تختلط عالمات اإلرهاق، واإلجهاد بعالمات الفرح والزهـو

أبشر، لقد نجحت العملية، سيعيش : واالنتصار، وصاح بجالل . ابنك، ونجحت أنا في تحقيق نصر علمي عظيم

راد في حرارة، وانهمـرت قفز جالل من مقعده يعانق م . الحمد هللا، الحمد هللا: الدموع من عينيه غزيرة، وهو يهتف

Page 145: 5472

١٤٤

والطفل اآلخـر، : ثم تردد لثوان قبل أن يسأل في خفوت ماذا عنه؟

ال تشغل بالك بـه، : ربت مراد على كتفيه بمودة، قائال أسرع وبشر زوجتك، ولتفرحا معا بنجاة ابنكما، الذي كتب له

. هذه العملية، وال تفكر في أي شيء آخرعمر جديد بعد تردد جالل لحظات أخرى، ثم ارتسمت ابتسامة واسـعة

. معك حق: على شفتيه وهو يسرع نحو الهاتف قائالوانشغل بإبالغ زوجته، التي عجـزت عـن الحـضور

بـالخبر –وتحمل البقاء في المستشفى في هـذه الظـروف ب، ومـا زالـت السعيد، في حين جلس مراد على مقعد قري

ابتسامة الزهو واالنتصار على شفتيه، وهو يفكر في المجـد والشهرة اللذين ينتظرانه في الفترة القادمة، وقد محا من ذهنه كل ما يتعلق بضحاياه، في سبيل الوصول لهذا المجد وهـذه الشهرة، الطفل الصغير المسكين، الـذي جعـل منـه حقـل

. نهم بعد والدتهتجارب، وأيضا أهله الذين انتزعه مووصل الخبر أخيرا إلى مصطفى، الذي صـدم وثـار

لو أنك عالم حقيقي، لعرفت : ثورة عارمة، وصرخ في مراد أن العلم ينبغي أن يسخر لخدمة البشر، وتحقيق منفعتهم، هذا

Page 146: 5472

١٤٥

هو الهدف من أي تقدم علمي، وليس تحويل األبريـاء إلـى . حقول تجارب

نت يا جالل، أسـعيد أنـت وأ: والتفت إلى جالل صائحا اآلن؟ هل تتوقع أن تهنأ لك الحياة، وقد اشتريت حيـاة ابنـك بحياة طفل آخر ال ذنب له وال ألهله، في ابتالء اهللا لك فـي

ابنك؟ اسمعني يـا مـصطفى، إن : حاول جالل أن يهدئه قائال

... الال تحاول يا جالل، وال تتعب نفسك : قاطعه مراد ببرود

لن يقتنع بغير ما هو مقتنع به، من أفكـار ،تمع هذا المتزم . سخيفة ال تصنع أي تقدم علمي على اإلطالق

أنت الذي ال فائـدة ترجـى مـن وراء : هتف مصطفى . محاولة تغييرك يا مراد، لألسف

إنني لن : وسيطر على أعصابه بصعوبة بالغة، واستطرد دول أحتمل البقاء هنا بعد اآلن، هناك مستشفيات كثيرة فـي

أخرى عرضت علي أكثر من مرة العمل بهـا، ومـا دمـت عجزت عن اإلصالح هنا، فسأترك المستشفى، والبلد كلهـا، ـا يـا صـديقيا، وداعا جـدوأهاجر، هذا أفضل لي كثير

Page 147: 5472

١٤٦

الغاية أبدا ال : العزيزين، وحاوال أال تنسيا ما سبق وقلته لكما . تبرر الوسيلة

صة لمزيد مـن الكـالم وغادر المكتب دون منحهما فر : حاول جالل االندفاع خلفه، إال أن مراد استوقفه قائال بحـزم

اتركه، ال تهتم، اعتن بابنك وافرح بنجاته فقط، وال يشغلك أي . شيء آخر

ولكنه صديقنا يـا : توقف جالل والتفت إليه، وقال بتردد مراد، ونعرفه من سنين طويلة، ويعز على انتهـاء صـداقتنا

. هكذاهو الذي اختار، وأنت لم تخطـئ : ل مراد بحزم أكثر قا

في شيء، لقد كنت تسعى لحماية ابنك الذي جاءك بعد طـول انتظار، ولكنه لن يفهم ولن يقتنع بهـذا، علـى األقـل اآلن،

هذا يوما ما، ويعود، وتعود ) المتخلف(فدعه، لعله يغير فكره . صداقتنا

ـ راد فـي وقد كان، وسافر مصطفى بالفعل، وأستمر متجاربه وأبحاثه، واستطاع جالل وزوجته سلوى بعـد فتـرة

. بالفعل نسيان كل شيء والتركيز على ابنهما ورعايته

Page 148: 5472

١٤٧

ومضت بضعة أشهر، وجاء يوم، كان جالل جالسا فـي حجرته بالمستشفى، حين فوجئ بهرج ومـرج يحـدث فـي الخارج، وأصوات صراخ وأقدام عديدة، فأسرع يفتح البـاب

مـاذا هنـاك بالـضبط؟ : األمر، وسأل أحد األطباء مستطلعا حريـق، : صاح الطبيب بأنفاس الهثة، وهو يواصل العـدو

!حريق هائل في معمل الدكتور مرادولثوان، لم يستوعب جالل ما قاله الطبيب، ثم لم يلبـث أن اتسعت عيناه في ذعر وهلع ال حد لهما، وانـدفع جاريـا

ي وسـط التجمهـر مـن بدوره إلى حيث المعمل، وتوقف ف األطباء والممرضين، والمرضى الذين تجمعـوا أمـام بـاب المعمل الذي يحترق، وقد تضاعف ذعـره وهلعـه أضـعافا

وفهم من بعض ما استطاع التقاطه، . مضاعفة ألف ألف مرة في حالته تلك، من عشرات األحاديث المختلفة حوله، أن أحد

قد انفجـر واشـتعل األجهزة التي يستعملها مراد في معمله، فجأة، وتسبب في احتراق المعمل كلـه، بمـراد ومـساعديه أيضا، رغم احتياطات األمن ضد الحرائق في مستشفى كبير

!! كهذا

Page 149: 5472

١٤٨

أدنى أمل في العثور على – من حجم الحريق –ولم يبد أحياء بداخل المعمل، وانهمك الجميع في محاولـة الـسيطرة

جالل فقد ظـل صـامتا على الحريق وإخراج ضحاياه، أما لـى إمبهوتا مذهوال للحظات، ثم تحرك في جمود وآلية عائدا

مكتبه المشترك مع مراد، وسابقا مع مصطفى أيضا، وارتمى على أقرب مقعد إليه، وظل على حالة الذهول والجمود ثوان

مصطفى كـان : أخرى، ثم ما لبث أن انفجر باكيا، وصارخا ا في حق أبرياء ال ذنب لهم، وفي حـق على حق، لقد أجرمن

العلم، وقبل كل شيء، في حق خالقنا، واآلن علينا أن نـدفع الثمن غاليا، أوال مراد، ثم أنا، سيأتي علي الدور ال محالة، ال

. محالةارتفع صوته بالبكاء والصراخ بالكلمة األخيرة، ولكن لم

الحادثين ينتبه إليه أحد وضاع صوته في وسط الهرج والمرج . في المستشفى كلها

ومضت فترة طويلة بعد ذلـك حتـى اسـتطاع جـالل السيطرة على أعصابه، وبذل كل ما يستطيع حتـى توصـل لعنوان مصطفى في الدولة التي سافر إليها، وبعث إليه خطابا يقطر حزنا وألما وندما، يبلغه بخبر وفاة مراد فـي حريـق

Page 150: 5472

١٤٩

فرصـة ممكنـة، فهـو مروع، ويستحلفه الرجوع في أقرب . يحتاج إليه بشدة، فلم يعد لديه صديق عمر مقرب سواه اآلن

ولم تمض سوى أيام قالئل، حتى فوجئ بمصطفى يدخل عليه مكتبه بالمستشفى، ونظر كالهما إلى اآلخر طويال، ثـم

. ارتميا في أحضان بعضهما، واختلطت دموعهما معان جالل وسلوى مرت سنوات على هذا اليوم، كبر فيها اب

شهر، وكانت فرحة أبويه بـه أوتعدى عمره الخامسة ببضعة كبيرة، إال أن قلقا غامضا كان يعتمل في أعماق جالل، وكان يتذكر دائما قول مصطفى يوم عرف بأمر العملية، وإنقاذ حياة صغيره على حساب حياة طفل آخر وأسرة أخرى، قـال لـه

لك الحياة، وقـد اشـتريت هل تتوقع يا جالل أن تهنأ : يومهاحياة ابنك بحياة طفل آخر ال ذنب له وال ألهله، في ابتالء اهللا

لك في ابنك؟ كان يتذكر تلك الكلمات، وهو ينظر إلى طفلـه يلعـب

؟...........ترى هل: ويلهو، ويفكرثم يهز رأسه بعنف رافضا مجرد التفكير فـي األمـر،

. وينشغل بمالعبة ومداعبة الصغير

Page 151: 5472

١٥٠

جاء يوم، كان جالسا بمكتبـه فـي المستـشفى مـع ثممصطفى، حين رن جرس الهاتف فجأة، فرفع السماعة ليجـد على الطرف اآلخر المربية المسئولة عن رعاية الطفل فـي

الحقني يا سيدي، سيدي الصغير : غيابة هو وزوجته، تصرخ كان يلعب في حديقة الفيال وتركته لمدة لحظات، فخرج مـن

... ة إلى الشارع وباب الحديقلم تستطع إكمال العبارة إذ انفجرت في البكاء، فـصرخ

: قالت المربية من وسط شهقاتها ودموعها . وماذا؟ انطقي : هو ! صدمته سيارة مسرعة وهربت يا سيدي

أطلق جالل صرخة هائلة، دوت في أنحـاء المستـشفى كلها، حاملة اسم ابنه، قبل أن ينطلق بسرعة البرق الخـاطف مغادرا إياها، ولم يستطع مصطفى اللحاق بـه إال بـصعوبة، وحين وصل إلى منزله، سمع صراخ وعويل المربية، ووجد جالل يقف في الحديقة كتمثال جامد، فاندفع إليه يهزه برفـق ويناديه، حتى حرك رأسه أخيرا ببطء والتفت إليه، وحدق فيه

!! ابني مات يا مصطفى: قليال، ثم قالارتفع صوته فجأة إلى حد الصراخ، مكـررا نفـس ثم

العبارة، ثم لم يلبث أن أطلق ضـحكات هـستيرية عاليـة،

Page 152: 5472

١٥١

وأنطلق مغادرا الحديقة وجاريا في الشارع، وهو ال يتوقـف . عن ترديد العبارة

وحاول مصطفى اللحاق به ولكن لم يستطع، فتوقف في ال حـول وال :مكانه يائسا، متمتما في أسى ومرارة بال حدود

. قوة إال باهللاوسار هائما، متأمال ما حوله، مفكرا في اإلنسان، ذلـك المخلوق العجيب، الذي يحول النعمة إلى نقمة، والعلم النـافع

!! المفيد الذي يهبه له خالقه، إلى العلم المدمر

. . مم٢٠٠٣٢٠٠٣/ / ١٠١٠/ / ١٠١٠

Page 153: 5472

١٥٢

القسم الرابعالقسم الرابع

مصريـــــاتمصريـــــات

Page 154: 5472

١٥٣

نيلنا العظيم نيلنا العظيم امر وهو سائر في الطريق بصديقه هيثم، فحيـاه، التقى ت

إلى أين أنت ذاهب؟ : وسألهلى مكان محدد، إنني فقـط أتمـشى، إليس : أجاب هيثم

ما رأيك لو ذهبنا لنسير قليال علـى الكـورنيش، : فقال تامر : ونتأمل النيل العظيم الجميل من هناك؟ فضحك هيـثم وقـال

عاشق لمنظر النيل، وال كنت أتوقع منك هذا االقتراح، فأنت .. تمل رؤيته أبدا، على العموم، حسنا هيا بنا إلى هناك

وذهب الصديقان إلى الكورنيش، وسارا معا يتأمالن هذا الجمال الرائع الفريد والطبيعة الخالبة المحيطة بهمـا، وبـدا تامر مبهورا، وكأنها أول مرة يرى فيها النيل، فضحك هيـثم

يتـه أبـل ر : ل من قبل يا تامر؟ أجاب تامر ألم تر الني : وقالكثيرا، ولكنه ال يختلف كثيرا عن اآلثار الفرعونية سواء تلك التي تراها في أماكنها الطبيعية التي بنيت فيها أو التي نراهـا في المتاحف، فمهما رأيناها مرات كثيرة فإننا نظل ننبهر بها

هذا رغـم أنهـا في كل مرة نراها فيها وكأنها المرة األولى، آثار من صنع البشر، فماذا عن األثر العظيم الذي هـو مـن

Page 155: 5472

١٥٤

هل تعتبر النيـل أثـرا؟ أجـاب : صنع اهللا؟ قال هيثم مندهشا بل هو أعظم اآلثار، وهو الـذي جعـل كـل آثارنـا : تامر

الفرعونية توجد، فلواله لمـا قامـت الحـضارة الفرعونيـة الذي علـى أساسـه العظيمة التي تركت لنا هذه اآلثار، فهو

قامت الزراعة في مصر منذ القدم وحتى اليوم، فأمكن بنـاء بلدنا الحبيب على جانبيه، ألم تسمع يا هيثم قول المؤرخ القديم

نعم سمعت يـا تـامر، : مصر هبة النيل؟ قال هيثم : هيرودتأيعني ما قلت أننا ال نـسكن إال عنـد : ولكني أريد أن أسألك

مساحة مصر خالية ال يسكنها أحـد؟ النيل فقط؟ ونترك باقي لألسف يا هيثم هذا ما يحدث بالفعل فنحن ال نقـيم : قال تامر

فقط من إجمالي مساحة مصر كلها، أما % ٦ال على مساحة إالباقي فصحراء جرداء ال يسكنها سوى البدو الذين يعتمـدون

–في معيشتهم على مياه اآلبار واألمطار التي ال يوجد غيرها هناك، ولكنها تتناسب على أي حال مع عـددهم –ن حتى اآل

ألم تـسمع : ولماذا قلت حتى اآلن؟ رد تامر : القليل، قال هيثم عن المشروع العظيم الذي يتبناه الرئيس مبـارك؟ مـشروع

أعتقد أنني سمعت عن مشروع بهذا االسم : توشكى؟ قال هيثم هيثم، إنه ليس مشروعا بسيطا أو هينا يا : من قبل، قال تامر

Page 156: 5472

١٥٥

نه مشروع عمالق، إنه ببساطة إنشاء دولة داخل الدولة، قال إإنه ببساطة يعتمد على مد فرع : كيف؟ قال تامر : هيثم مندهشا

كبير من النيل إلى المنـاطق الـصحراوية المهجـورة فـي الصحراء الغربية الواسـعة الـضخمة، ممـا يتـيح إمكـان

افـة المرافـق استصالحها وزراعتها، مع تزويد المنطقة بك والخدمات المطلوبة ليمكن الحياة فيها وتعميرها، وبذلك يمكننا تخفيف التكدس حول نهر النيل، واستغالل مساحات أكبر من بلدنا الحبيب، لم تستغل من قبل بصورة كاملة، أرأيت كم هو

أجل، إننا محظوظون أن يكون لنا : مشروع عظيم؟ قال هيثم فكر في كل ما فيه مصلحة شعبه رئيس عظيم كرئيسنا، الذي ي

. وأمنه وراحتهوواصل الصديقان سيرهما، متأملين ما حولهما، وفجأة،

انظر يا تامر، سمكة ميتة على سطح النهر، نظـر : قال هيثم نعم يا هيثم، إنها سمكة : سىأتامر حيث أشار هيثم، وقال في

أخرى؟ هل شـاهدت : صغيرة أخرى ميتة، قال هيثم مندهشا شاهدت كثيرا منها، فمع : ماكا ميتة هنا قبل ذلك؟ قال تامر أس

ن نيلنا الحبيب الخالد أصبح يئن ويشتكي ويـصرخ إاألسف، : ويستغيث من كثرة ما به من تلوث، قال هيثم فـي تعجـب

Page 157: 5472

١٥٦

تلوث؟ وما عالقة التلوث بهذه السمكة الصغيرة؟ إنها ال بد قد ألسـماك بعـد أن سقطت من شباك أحد الصيادين الممتلئة با

رفعها من الماء لفترة، وألنها صغيرة لم تتحمل وماتت فورا، ال يا هيثم، إنها لم تسقط من شباك أحد الـصيادين : قال تامر

كما تقول، إنها ماتت مختنقة من شدة ما يحيط بها من تلـوث مثل ماذا؟ رد : بأشكال مختلفة ومن مصادر متعددة، قال هيثم

ولك وأنت ترى، لقد انتشرت المصانع بصورة انظر ح : تامررهيبة حول النيل، كل أنواع المصانع، وكلهـا تتجـه للنيـل للتخلص من نفاياتها التي تترتب على عملها، وكـأن النهـر المسكين مستودع للقمامة والنفايات، هذا باإلضافة إلى ما تلقيه

–فنادق العائمة سواء العابرة أو الراسية كال –السفن والبواخر فيه، من فضالت وقاذورات، كما أن الفالحين يتعاملون معـه باعتباره قبرا لحيواناتهم الميتة، فيلقوها كلهـا فيـه، وكـذلك باعتباره مصرفا للمياه الزائدة التي تفيض عن حاجة حقولهم، وال تذهب للنيل في هذه الحالة نظيفة وصافية بـالطبع، كمـا

يه حاجتهم، والنساء يغسلن فيـه الثيـاب أنهم أيضا يقضون ف وأواني الطعام، ماذا نتوقع أن يحدث لنيلنا المسكين وكائناتـه النباتية أو الحيوانية، حينما يتلقى كل ذلك الكم الفظيـع مـن

Page 158: 5472

١٥٧

األوساخ والقاذورات والقمامة والفـضالت والنفايـات؟ مـن الطبيعي جدا أن ترى هذه السمكة الصغيرة، التي كـان مـن

ممكن أن تكبر وتنتج أسماكا أخرى كثيرة، وأيضا المئـات الواآلالف غيرها من مختلف الكائنات البحرية، وقال عجـزت

... عن احتمال كل هذا التلوث، وماتت مختنقة بسببهياااه، كل هذه الملوثات، يستقبلها النيل، ولكن : قال هيثم ة تلـوث ألم يعان أجدادنا الفراعنة من مـشكل : قل لي يا تامر

يا هيثم، لقـد حرصـوا . مطلقا، مطلقا : النيل هذه؟ قال تامر وحافظوا على هذا النهر العظيم، مصدر حيـاتهم، ومـصدر الخير والنماء لهم أشد المحافظة، أما نحن، فلم نأخذ منهم بكل أسف، سوى احتفالهم به في شهر أغسطس من كل عام، ولكن

د أن نأخذ أيضا منهم عنايتهم ما أخذناه منهم ال يكفي أبدا، ال ب بالنهر العظيم، وحرصهم ومحافظتهم عليه، وعلى عدم تلوثه، صحيح أن الدولة تحاول جاهدة محاربة التلوث فـي النيـل،

ت كالمصانع والفنادق العائمة من التي تسبب تلوثا آفتهدم منش شديدا للنهر، وتنذر غيرها وتعطيه مهلة ليمتنع عما يقوم بـه

ث، وتضع تشريعات وقوانين بعضها نفذ فعال والبعض من تلو اآلخر قيد الدراسة، لمنع التلوث والحد منه في النيل، ولكـن

Page 159: 5472

١٥٨

كل هذا لن يكون له فائدة حقيقية ما لم تكن لدى كـل فـرد، صغيرا كان أم كبيرا، قناعة تامة بضرورة الحفاظ على نهرنا

ر عليه لمنع هـذا الحبيب، ال بد أن يفعل كل واحد منا ما يقد التلوث في النيل، ويكف تماما عن إلقاء أيـة ملوثـات فيـه، وينصح كل من يعرفه بذلك، وكل من يبدأ سيكون قدوة حسنة

. معك كل الحق يا تامر: لغيره، قال هيثمأكمل الصديقان جولتهما على الكـورنيش، ثـم تركـاه

ما يمكنـه ومشيا معا عائدين لبيتهما وكل منهما ال يشغله إال . عمله من أجل نيلنا العظيم الحبيب

م م ١٩٩٩١٩٩٩/ / ٦٦/ / ١٦١٦

Page 160: 5472

١٥٩

هل يتحقق الحلم يوما؟ هل يتحقق الحلم يوما؟ دروس خصوصية؟ : صاحت األم في وجه ابنها بغضب

ما هذا الذي تقوله؟ إنك ال تزال في المرحلة االبتدائية، وحتى إخوتك الكبار لم يطلبوا مثل هذه الدروس، ال عندما كانوا في

. عندما كبروا، وحتى اآلنمثل سنك، وال قال االبن بخوف، يا ماما إننا في المدرسة نقترب مـن السبعين تلميذا في الفـصل وال نفهـم شـيئا ممـا يـشرحه

. المدرسون، والكثير من أصحابي أخذوا دروسا خصوصيةصمتت األم وتذكرت الصعوبة التي قابلتها في التقـديم

سبب ازدحامها، ولكن رغم خوته ب إبالمدارس البنها هذا ولكل أيا كان األمر، ابذل أكبر جهـد السـتيعاب : ذلك أجابته بحدة

الدروس، إننا ال نكاد نكمل مـصاريف طعـامكم وشـرابكم وهـي !!! خوتـك الـستة إوملبسكم وتعليمكم كل شهر أنت و

المصاريف األساسية التي ال يمكن االستغناء عنها، فتأتي أنت مت الولـد ودخـل غرفتـه وتطلب مصروفات إضافية؟ فص

. خائفا

Page 161: 5472

١٦٠

وذهبت األم لتعد الطعام الغداء لزوجها وأوالدها، الـذين عادوا لتوهم واحدا بعد اآلخر من مدارسهم، وسـرعان مـا أنهت أعداد الطعام ونادت عليهم، فجاءوا واجتمعـوا جميعـا حول الطعام، ولم تلبث تعليقات األوالد واحتجاجاتهم المعتادة،

لطعام البسيط الذي ال يتغير وكميته، أن بـدأت، حول نوعية ا وبدأت معها أيضا ردود الوالدين التقليدية بـأن اإلمكانيـات

! المادية لألسرة ال تسمح بغير هذا، ومن ال يعجبه فال يأكـل وبعد الطعام بدأت فترة المساء الصاخبة التي ال يعرف البيت

المـستمرة فيها لحظة هدوء واحدة، فضجيج األبناء وحركتهم تقضي على هذا الهدوء تماما، وال ينعم به البيت إال ليال حين ينام الجميع ويستعدون ليوم جديد ال يختلف عما سـبقه مـن

!!حيث العناء المتواصل من الصباح وحتى المساءفي الصباح، وبعد اإلفطار الهزيل المعتاد، اتجـه األب

واصالت العامـة لعمله، وبعد معاناة األمرين ككل يوم في الم وازدحامها الفظيع وصل، وبدأ عمله، وخالل اليوم دارت بينه وبين عدد من زمالءه أحاديث حول العيـد الـذي يقتـرب، والمشاكل السنوية المألوفة في هذا الوقت من العام حول تدبير المالبس الجديدة والعيديات لألوالد الذين ينتظروهـا بفـارغ

Page 162: 5472

١٦١

منهم، وعاد األب فـي نهايـة الصبر، وكذلك اللعب للصغار اليوم لبيته بنفس معاناة الصباح ليجد أوالده يحدثونه في نفس الموضوع، أي انتظارهم لمالبس ولعب العيـد، فلـم يجـبهم بشيء، وراح يتناقش مع زوجته بعد ذلك حول هـذا األمـر، فاتفقا على شراء قطعة ثياب واحدة لكل ولـد أو بنـت مـن

! أوالدهما، وبأقل األسعاربعد بضعة أيام، مـرض أحـد األبنـاء وتعـب بـشدة فاصطحبه أبوه لمستشفى حكـومي يتناسـب مـع إمكانياتـه المتواضعة، وقرر األطباء هناك أنه بحاجة لعملية كبيـرة ال تسمح إمكانية المستشفى بتوفيرها، وال توجد إال في مستشفى خاص ال يقدر األب بالطبع على جـزء مـن المبلـغ الـذي

! نه دفعه فيه لو ذهب بابنه إليهسيتطلب مسى، وال يـدري أعاد األب ساهما شاردا مفكرا بحزن و

ماذا يفعل؟ ودخل حجرته واستلقى على سـريره، وراح فـي بزوجته وقد أعـدت لـه أالنوم، واستيقظ في الصباح، ليفاج

.طعام إفطار شهي ولذيذ وبكمية مشبعة علـى غيـر العـادة لى مائدة اإلفطار لم يكونوا بـنفس وأبناؤه حين اجتمع بهم ع

العدد الكبير الذي اعتاد رؤيتهم به، ولم يصدر عنهم ضجيجهم

Page 163: 5472

١٦٢

المألوف، بل كانوا نظيفين مرتبين وفي صحة جيـدة وتلمـع أعينهم بالذكاء والحيوية، وحين اتجهوا لمدارسهم واتجه هـو لعمله، فوجئ أيضا بأن المواصالت ليست مزدحمة ككل يوم

ست صعبة وعسيرة، بل على العكس اسـتطاع أن والرحلة لي يجد له كرسيا ويصل لعمله بسرعة وبكـل سـهولة ويـسر، وتكرر األمر نفسه دون تغير أثناء العودة، فرجع لبيته سعيدا مستريحا ال يعاني إرهاق اليوم المعتاد، وفي المساء اصطحب

ة زوجته وأوالده لشراء ثياب العيد، واشترى ثيابا كاملة ولعب جميلة لكل منهم، وسعد برؤية عالمات الفرح واالبتهاج على وجوههم، وحينما عادوا ليال، وكل واحد من األوالد يحتضن ثيابه ولعبته، وزوجته أيضا سعيدة بما اشتراه لها من ثيـاب جديدة، كان ما زال حائرا مندهشا من هـذا اليـوم الغريـب

م تطل حيرته ودهشته ول.... الجديد عليه والذي لم يتوقعه، و كثيرا، فسرعان ما استيقظ من نومه حقا هذه المرة، وفهم أنه كان يحلم، وأن الواقع المرير الذي يعيش فيه مـع أسـرته، وتحياه أسر كثيرة جدا غيرهم، لم يزل كما هو لـم يتغيـر،

لماذا؟ وإلى متى هذا الحال؟ وهل بالده فقيرة إلى : وراح يفكر ؟ وبعد تفكير، اكتشف أن المشكلة كلها تتركز هذا الحد أم ماذا

Page 164: 5472

١٦٣

الزحام، الزحام في كل مكـان، وفـي كـل : في كلمة واحدة شيء، وأي شيء، في الشوارع، وفـي المواصـالت، فـي األماكن العامة وفي البيوت، زحام وتكـدس رهيـب، كفيـل بابتالع أي ثروات مهما كبرت، وامتصاصها امتصاصا، حتى

، أما عن سبب هذا الزحام، وعالجـه، ال يكاد يشعر بها أحد فلم يكن من العسير عليه معرفتهما، فالسبب هو زيادة السكان الهائلة التي تفوق طاقات وإمكانيات الدولة، أما العالج فهـو

ترى هل يتحقق حلمه، : ببساطة تنظيم األسرة، وتساءل األب وحلم كثيرين غيره بال شك، ويتحول يوما لواقع؟ هل؟

Page 165: 5472

١٦٤

المستمر المستمر الحلم الحلم اندفع منتصر متهلل الوجه نحو صديقه صابر، الذي كان جالسا والحزن واالكتئاب باديان عليه، وصاح منتـصر فـي

: فرح غامرهل سمعت األخبار الرائعة؟ أخيرا انتـصرنا وسـننظم

. م٢٠١٠كأس العالم : رفع صابر رأسه ونظر لصديقه باندهاش شديد، وقـال

رأيت حاال ذلك المدعو بالتر يعلن أن ما هذا الذي تقوله؟ لقد جنوب أفريقيا هي التي ستنظم البطولة، وأننا لم نحصل فـي تصويت أعضاء الفيفا على الدولة المنظمة وال حتـى علـى

. صوت واحدكفى مزاحا ثقيال : انفجر منتصر ضاحكا، وصاح بمرح

. يا فتى، لقد فزنا بأغلبية ساحقة، انظر، ليشاهد صـابر مـذهوال جميـع وأسرع يشغل التلفاز

ما أغاني وطنية وإما تهـاني للمـواطنين إالقنوات وهي تذيع ، وكـان نفـس ٢٠١٠بفوز مصر بتنظيم بطولة كأس العالم

Page 166: 5472

١٦٥

الشيء في إذاعات المذياع الذي شغله منتصر أيضا، قبـل أن . وقم معي لترى هذا أيضا: يقول

حاشـدة وجذبه إلى النافذة وفتحها ليشاهد صابر جموعا من الناس في الشارع، أطفاال وشبابا وكهوال وشيوخا، أوالدا

رجاال ونساء، قد خرجوا فـي مظـاهرات حاشـدة، ،وبناتارتفعت فيها أعالم مصر عالية خفاقة، وارتفعـت صـيحات

. الفرح واالبتهاج من كل األفواهوشعر صابر باندهاش وحيرة بالغة، إذ مـا الـذي رآه

قليل إذن؟ ولكنه ما لبث بعد قليل أن تجاهل هذا، وسمعه منذ واندمج في مشاعر الفرح والـسعادة واالبتهـاج والـسرور

. العارم، ومظاهر االحتفاالت الصاخبة من حولهومرت األيام، واألسابيع، والشهور، والسنوات، ومـصر

لى حال، وكل يوم يحدث فيها جديد يجعلهـا إتنتقل من حال ابق، وكان أجمل ما في هذا التغيير أنـه أفضل من اليوم الس

كان نتاج تعاون كل المصريين معا، كل فـي ميدانـه، وراح . صابر يتابع كل هذا ويشارك فيه بسعادة ال مثيل لها

م ولم يتبق على بدء البطولـة ٢٠١٠وأخيرا، حل عام سوى شهور قليلة، واكتملت استعدادات مصر الستقبال الحدث

Page 167: 5472

١٦٦

و كادت، والذي كان مسافرا وقـت إعـالن العالمي الكبير أ نتيجة التصويت على الدولة المنظمة لهذه البطولة وعاد فـي

. بداية هذا العام، ظن أنه في بلد آخر تماماالنظام والنظافة في كل مكان، والفنادق والقرى السياحية في أفضل وأحسن أحوالها، والمالعب التي سـتقام مباريـات

أحداث الطرز العالمية، والنـاس ال تكـاد البطولة عليها على تفارق االبتسامة وجوههم، ورغم أن من عـادة المـصريين إشعار الغرباء واألجانب بالدفء واألمـان وعـدم الغربـة، واستقبالهم بالمودة والترحيب، فإن هذا قد تضاعف في هـذا العام أضعافا مضاعفة عن المعتاد، بل واتجه النـاس لتعلـيم

نبية ال سيما اإلنجليزية، بتشجيع مـن المـسئولين اللغات األج . شمل حتى البسطاء كسائقي سيارات األجرة

وأصبحت مصر كالعروس في أتم زينتها وأجمل شـكل . لها، تنتظر يوم زفافها بفارغ الصبر

وجاء اليوم الموعود، واتجهت أنظار العالم كله إلى هذه فال العالمي الذي العروس الفاتنة الساحرة، وبدأت مراسم االحت

شهده الماليين والمليارات مباشرة بالحضور أو مـن خـالل أجهزة األعالم وهم في بالدهم، وكانت عبارات الثناء والمديح

Page 168: 5472

١٦٧

ن مـن إواإلعجاب واالنبهار ال تنقطع من الجميـع، حتـى خرجوا خالل أدوار هذه البطولة العالمية، كانوا يقولون إنهـم

ا قط طيلة حياتهم، نعموا خاللهـا فازوا بقضاء أيام لن ينسوه بدفء وترحيب ومودة أنسوهم أنهم في بلـد غيـر بالدهـم،

. وبأمان وسالم يفتقدونهما في أوطانهم ويتمنون لو كانا فيهاوانتهى االحتفال والحدث العالمي الكبير، وأسف الكـل على انتهاء األيام الجميلة سريعا، وودعت مصر ضيوفها بكل

م لها كل الشكر علـى هـذه االستـضافة الحب، ووجهوا ه . الكريمة والبطولة الرائعة

والحظ صابر أثناء البطولة وبعد انتهائها رواجا وانتعاشا اقتصاديا وسياحيا غير عادي، نقل البالد من تصنيف عـالمي لتصنيف آخر تماما، فكانت سعادته وفرحته وابتهاجـه فـوق

ثناء، وقـال الوصف وكان هذا حال كل من حوله بـال اسـت لقد كانت بطولة كأس العالم فاتحة خير علينا وحلمـا : لنفسه

جميال عشنا فيه قبل تنظيمها بسنوات، وأثناء تنظيمهـا، ولـم ينته هذا الحلم بانتهائها وإنما سيظل ممتدا بآثاره الرائعة علينا

...........لزمن طويل، و " رباه، يا له من حلم"

Page 169: 5472

١٦٨

ابر وهو يهب جالسا علـى جاءت العبارة على لسان ص م، وأن نتيجـة ٢٠٠٤نه ما زال في عـام أفراشه، ويتذكر

م قـد ٢٠١٠تصويت الفيفا على الدولة المنظمة لكأس العالم ظهرت وكانت من نصيب جنوب أفريقيا، أمـا نحـن فكـان

. نصيبنا الصفر الكبير : وتساءل في نفسه

ل ترى ما الوصف الذي يمكن إطالقه على ما حدث؟ وه يتسم بالعدل واإلنصاف؟ أم بالظلم والجور والتآمر؟

واألهم من ذلك، هل تكون هذه هي النهاية؟ أم البداية؟ ولمعت عينا صابر بنظرة عزم وتصميم، وقال في نفسه

: بحزم وقوةكال، ال يمكن أن تكون هذه هي النهاية أبـدا، ال بـد أن

بـال يـأس، تستفيد مما حدث، ونتعلم منه، ونحاول من جديد يجب أن نفعل المستحيل، لكي يستمر حلمنا، ويصبح حقيقـة

. ذات يوم، قريبا كان أو بعيدا